مر 71 عامًا على الثورة التي حررت مصر، بعد سنوات الفساد والظلم والاستعمار.. لتعلن الجمهورية الأولى وتصبح بمثابة المصباح الذي أضاء الطريق لحركات التحرر الوطني فى المنطقة العربية والقارة الإفريقية بل امتدت آثارها لما هو أبعد من ذلك.
جاءت أحداث الثورة البيضاء كما يصفها بعض المؤرخين، لترسم الطريق للجمهورية الأولى وتضع مجموعة من المبادئ فى مقدمة أولوياتها للعمل عليها، وهو ما حرص الضباط الأحرار عقب نجاح الثورة فى 23 يوليو 1952 فى العمل عليه.
كانت هناك مجموعة من الأسباب وقفت وراء ضرورة التحرك الذي قام به مجموعة من أبناء مصر المخلصين داخل صفوف الجيش المصري.
شباب تشرّب بحب الوطن، وآمن بقضيته، فعمل على ضرورة تخليص الدولة من الفساد والاستعمار إلى التحرر والبناء والتنمية.
لننظر إلى القاهرة فى صباح الثلاثاء 22 يوليو 1952 وقبل قيام الثورة بيوم واحد، كعادة أيام الصيف الحارة بدرجة حرارة بلغت 35 درجة مئوية، المصريون تلهبهم شمس الصيف الحارقة.. حالة من التساؤل فى الشارع حول سبب عودة الهلالي لرئاسة الحكومة فقد توسطت الصفحة الأولى صورة أحمد نجيب الهلالي باشا والذي كلف برئاسة الحكومة بعد قبول الملك لاستقالة حكومة حسين سري.
البعض يتساءل ماذا حدث حتى يقبل الرجل صاحب شعار «التطهير قبل التحرير» رئاسة الحكومة من جديد؟! فالرجل كان قد استقال من رئاسة الحكومة قبل 20 يومًا ثم جاء ليقبلها مرة أخرى، بل إن أعضاء حكومته الجدد هم من كانوا إلى جواره فى الحكومة السابقة المستقيلة (تولى أحمد نجيب الهلالي رئاسة الحكومة فى الأول من مارس 1952 وحتى 2 يوليو 1952 خلفًا لحكومة على ماهر باشا).
ونشرت صحيفة الأخبار مقالاً فى صدر صفحتها الأولى إلى جانب خبر حكومة «الهلالي» للكاتب الكبير كامل الشناوي، تحت عنوان «أين الرجل؟» وكان المقال يشبه النبوءة بالثورة الجديدة، حتى إن بعض الضباط الأحرار ظن أن الخطة قد تسربت.
كما أن تشكيل الهلالي لحكومته دارت حولها عدة شائعات منها أنه أتى من بين أعضائها تعيين اللواء حسن سري عامر، وزيرًا للحربية، وهو خصم للضباط الأحرار كان دليلاً على تحدي الملك للضباط وبدء سياسة انتقامية فقد كان مخطط نقل اللواء محمد نجيب إلى منقباد، وتمكنت أجهزة الملك الخاصة بالأمن من كشف 12 ضابطًا معظمهم من لجنة القيادة وكان الهدف من تعيين حسين سري وزيرًا للحربية هو التنكيل بهؤلاء الضباط.
لكن تشكيل الحكومة لم يأتِ بحسن سري وزيرًا للحربية إنما جاء بإسماعيل شرين وزيرًا لها وهو زوج أخت الملك كما أنه كان ضابط احتياط ولا يصح أن يكون وزيرًا للحربية.
الأمر الذي عجّل بالثورة، كما عجّل بعدم بقاء وزارة الهلالي باشا هذه المرة فلم تبقَ سوى 18 ساعة.
وفى صباح يوم الأربعاء 23 يوليو 1952 وهو كأحد أيام شهر يوليو الساخنة ارتفعت درجة الحرارة إلى 36 وخرجت الصحف تحمل تشكيل الحكومة وتصريحات رئيسها الجديد بعد أدائها اليمين الدستورية بساعات قليلة.
لم يكترث المصريون بما حملته صحف يوم 23 يوليو وتصريحات رئيس الحكومة الجديد التي تصدرت الصفحة الأولى منها.
فى تلك الأثناء لم يكن المصريون يدركون أنهم على موعد مع حدث سيغير وجه المنطقة بالكامل، فالأحداث التي دارت ليلة 23 من يوليو والتحركات السريعة كانت بمثابة إعلان نجاح للثورة ففي الساعة الثالثة فجرًا وصل النقيب جمال القاضي إلى دار الإذاعة المصرية بشارع الشريفين على رأس فصيلة مشاة من الكتيبة 13 مشاة وضرب بقواته حصارًا حول المبنى وفى الساعة السادسة والربع صباحًا وصل المقدم محمد أنور السادات وهو يحمل البيان الأول للثورة وبعدها بقليل وصل مذيع الفترة الصباحية فهمي عمر وطلب منه أن يقدم السادات لإذاعة البيان على أن يقدمه باسم مندوب القيادة العامة، وكان مقررا ذلك عقب انتهاء المارش العسكري، لكن الإرسال قطع فطلب السادات من فهمي عمر استكمال تقديم فقرات البرنامج ثم عاد الإرسال وكان مقررًا أن يلقي السادات البيان عقب انتهاء فقرة القرآن الكريم، لكن الإرسال قطع مرة أخرى، وتأخر إعلان البيان حتى الساعة السابعة والنصف وهو موعد النشرة الصباحية، وكأن الأحداث جميعها تتحد لإنجاح الثورة وأذاع المقدم محمد أنور السادات البيان الأول والذي استمر لمدة دقيقتين ونصف واختتم البيان باسم مُوقّعه اللواء محمد نجيب، القائد العام للقوات المسلحة.
وترك السادات البيان لأحد الضباط القائمين على حراسة مبنى الإذاعة وعاد هو إلى مبنى رئاسة الجيش بكوبري القبة، ثم أعيد إذاعة البيان بعد ذلك أكثر من مرة وبأصوات مذيعين نظرًا لطلب الجماهير إعادة إذاعة البيان.
وتحولت شوارع القاهرة إلى أفراح واصطف الشعب خلف جيشه الذي استطاع أن يخلص الوطن من قيد المحتل وفساد الحكم.
وامتدت آثار الاحتفالات إلى كل ربوع مصر، وأعلنت الثورة المجيدة مبادئها
الـ 6 لتكون بمثابة منهاج للجمهورية الأولى وطريق لبناء وطن.
فقد غيٍرت الثورة أوضاع مصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية تغييرًا جذريًا، فكانت لصالح الأغلبية العددية من المصريين، حيث دعمت المصريين خاصةً الطبقة التي عانت من الظلم والحرمان والعدالة الاجتماعية، كما كانت حركة الضباط الأحرار لا تمثل اتجاهًا سياسيًا واحدًا، بل ضمت مختلف الاتجاهات السياسية، كما حظيت بتأييد شعبي واسع، فتحققت نقلة نوعية لمصر.
فأعلنت الجمهورية الأولى وعملت على تنفيذ العديد من المشـروعات الكبـرى والإنجـازات القوميــة مثل زيادة الرقعة الزراعية عن طريق استصلاحها، فكانت مشروعات استصلاح الأراضي الصحراوية فى مشروعين كبيرين هما مشروع مديرية التحرير ومشروع الوادي الجديد اللذين أضافا إلى مصر مساحات مزروعة لمساحتها التقليدية فى الوادي والدلتا.
وفى مجالات التصنيع، كانت المشروعات الصناعية العملاقة فى مجال صناعة الحديد والصلب والكيماويات والدواء والإنتاج الحربي، كما تم الاهتمام بصناعات التعدين والبتروكيماويات، والغزل والنسيج والصناعات الثقيلة.
كما نفذت مشروع السد العالي كأحد أهم المشروعات القومية العملاقة فى تاريخ مصر الحديث، بهدف توفير المياه لزيادة الرقعة الزراعية.
حرصت الثورة على توفير الخدمات الاجتماعية والصحية والثقافية لأهل الريف فأنشأت الوحدات المجمّعة بالريف لرفع الوعي العام بين الفلاحين.
كما شهدت مصر عقب ثورة يوليو 52 أكبر عملية إصلاح اقتصادي، وحدث اكتفاء ذاتي من كل المحاصيل الزراعية عدا القمح والذي بلغ 80%.
كما تم إنشاء الهيئة العامة لقصور الثقافة، والمراكز الثقافية لتحقيق توزيع ديمقراطي عادل للثقافة، وتعويض مناطق طال حرمانها من ثمرات الإبداع الذي احتكرته مدينة القاهرة، وإنشاء أكاديمية تضم المعاهد العليا للمسرح والسينما والنقد والباليه والأوبرا والموسيقى والفنون الشعبية، ورعاية الآثار والمتاحف ودعم المؤسسات الثقافية، كما سمحت الثورة بإنتاج أفلام من قصص الأدب المصري الأصيل بعد أن كانت تعتمد على الاقتباس من القصص والأفلام الأجنبية.
كما تم الاهتمام بالتعليم بمرحلتيه الجامعي وقبل الجامعي، وتم الاهتمام بالبحث العلمي والثقافة والإعلام.
لكن تلك الدولة الناهضة سرعان ما تعثرت بعد أن دخلت فى أكبر أزمة حيكت لها باحترافية شديدة، ليتعثر مشروعها الوطني، لكنه لم يمت.. وعقب خروج مصر من كبوتها سرعان ما حرصت على استكمال مشروعها الوطني لكن قوى الشر استهدفتها مرة أخرى بإبعادها عن محيطها العربي عقب تحرك مصر باتجاه عملية السلام من أجل تحقيق الاستقرار ومواصلة التنمية.
ودفعت تلك القوى الدول العربية باتجاه قرار كان من أصعب القرارات «تجميد عضوية مصر بالجامعة العربية» وفى مارس 1979 اجتمع بعض القادة العرب وقرروا قطع العلاقات العربية مع مصر، وبعد مرور 10 سنوات وبالتحديد فى مايو 1989 أي بعد مرور 10 سنوات على المقاطعة العربية لمصر، عادت مصر إلى عضوية الجامعة العربية، وعادت الأمانة العامة للجامعة العربية إلى مقرها بالقاهرة مرة أخرى فى 12 مارس 1990.
وبعد مرور أكثر من 61 عامًا على الثورة البيضاء جاءت الثورة الشعبية فى 30 يونيو 2013 لتخلص مصر من حكم الجماعة الإرهابية وتستعيد الدولة المصرية، ويبدأ مشروعها الوطني للجمهورية الثانية، وعلى مدى 10 سنوات تخطو فيه مصر خطوات ثابتة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية وبناء اقتصاد وطني قوي وتحديث القدرات القتالية للجيش المصري ليظل دائمًا هو درع الوطن وسيفه فى مواجهة أي عدائيات والحفاظ على مقدرات هذا الوطن.
كما استطاعت مصر أن تستعيد دورها الإقليمي والدولي.
لتشهد مصر خلال تلك الفترة أكبر عملية تنمية شاملة فى تاريخها فى مختلف القطاعات بدءًا من البنية التحتية والنقل والزراعة والصناعة والطاقة (الكهرباء والبترول) والتعليم والبحث العلم والثقافة والموارد المائية والري والتكنولوجيا والاتصالات.
لقد حرصت مصر خلال العقد الأخير على أن تكون بداية الجمهورية الثانية بمثابة مرحلة فارقة فى تاريخ هذا الوطن.
لتنتقل مصر من مصاف الدول النامية إلى دول الاقتصاديات الناشئة، وقريبًا تنضم إلى مصاف الاقتصاديات الكبرى، وسيكون انضمام مصر للبريكست بمثابة إعلان لانتقالها إلى مصاف الاقتصاديات الكبرى.
الصورة الحقيقية
مع الاحتفال بثورة 23 يوليو تخرج علينا بعض الأصوات مسبحة بحمد ورخاء عهد الملك متناسية فساده وحاشيته والمحتل الذي كان ينهب موارد الدولة وتجدهم يتحدثون عن نظافة القاهرة وقوة العملة فى ذلك الوقت ويتجاهلون تلك الأرقام والحديث عنها لأنها تكشف حقيقة ما كان يعيشه الشعب المصري.
فقد كانت نسبة البطالة بين الـمصريين 46 % قبل يوليو 1952 ويعاني اقتصادها من الاحتكار الأجنبي. والرفاهية والعدالة الاجتماعية لا ينعم بها سوى أقل من 5 % من السكان والبقية يعيشون حياة الفقر والأمية والظلم وضيق العيش، وقد وصلت نسبة الإصابة بالأمراض ومنها البلهارسيا إلى 45 % من السكان.