تنتهي ولاية حاكم مصرف لبنان "البنك المركزي" رياض سلامة يوم الاثنين المقبل ليغادر المنصب بعد 30 عامًا قضاها شاغلاً له في 5 ولايات متتالية مدة كل منها 6 سنوات.
وأصبح لبنان اليوم أمام 5 خيارات، في ظل انقسام الفرقاء السياسيين بلبنان حول شغل هذا المنصب بالغ الحساسية والذي يعد متحكمًا أساسيًا في السياسات النقدية والمالية للدولة اللبنانية التي تعاني منذ سنوات، لا سيما في أعقاب انتفاضة 17 أكتوبر 2019، من أزمة مركبة مالية اقتصادية نقدية، لم يسبق للبنان أن عاصر مثيلا لها.
وينص قانون النقد والتسليف اللبناني على أن تتشكل إدارة البنك المركزي من حاكم، يعاونه 4 نواب يتم تعيينهم وفق ذات النسق الخاص بتقاسم المناصب وتوزيعها بين الطوائف، وكذا مجلس مركزي، على أن يعين الحاكم لست سنوات بمرسوم يصدر في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية.
كما يعين نائبو الحاكم لخمس سنوات بمرسوم يصدره مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية واستشارة الحاكم، وهم يمارسون الوظائف التي يعينها لهم الحاكم، على أن يُسمح بتجديد ولاية الحاكم ونواب الحاكم مرة أو مرات عدة. ويقسم الحاكم ونوابه الأربعة اليمين القانوني أمام رئيس الجمهورية.
وجاء في المادة 25 من القانون ذاته أنه في حال شغور منصب الحاكم، يتولى النائب الأول للحاكم مهام حاكم البنك المركزي لحين تعين حاكم جديد.
ويتضمن الخيار الأولى الذي طرحه بعض السياسيين في لبنان، التجديد للحاكم الحالي رياض سلامه لولاية جديدة كاملة أو لفترة مؤقتة، للحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي النسبي الذي يعيشه لبنان حاليا بعد هزات عنيفة على مدى السنوات الماضية، وهو الحد الأدنى من الاستقرار في ظل الفراغ الرئاسي والتحديات التي تواجه الحكومة ومجلس النواب في ممارسة مهامهما، فضلا عن استمرار أزمة احتجاز البنوك لأموال المودعين.
غير أن خيار التمديد، أصبح في حكم المستبعد، بعد تأكيد رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، عدم التجديد لسلامه، وإعلان الحاكم نفسه أنه لن يبقى في منصبه بعد انتهاء ولايته، فضلا عن رفض أغلب القوى السياسية لاستمرار سلامه في منصبه خصوصا في ظل الملاحقات القضائية له داخل لبنان وخارجه.
ويتمثل الخيار الثاني في تعيين حاكم جديد يقترحه وزير المالية ويعرضه على مجلس الوزراء ليسميه، ثم يؤدي الحاكم الجديد القسم أمام مجلس الوزراء، باعتبار أن الحكومة القائمة تتولى صلاحيات رئيس الجمهورية في الوقت الحالي.
ويتبنى رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري هذا الخيار، مؤكدًا وجوب تعيين حاكم جديد، كما دعا الحكومة لعقد اجتماع لمجلس الوزراء كان مقررا أمس لاتخاذ قرار في هذا الشأن، إلا أن الجلسة لم تنعقد بسبب تغيب أغلب الوزراء، رفضًا لهذا الخيار انطلاقا من عدة اعتبارات سبق لهم أن أعلنوها، أولها أن منصب حاكمية مصرف لبنان مخصص للطائفة المسيحية المارونية، وبالتالي لا يمكن تعيينه في غياب صاحب المنصب الماروني الأعلى في الدولة اللبنانية وهو رئيس الجمهورية المخصص الذات الطائفة.
ومن بين الاعتبارات أيضا أن حكومة رئيس الوزراء نجيب ميقاتي تتولى حاليا تصريف الأعمال في أضيق نطاق للشهر الخامس عشر على التوالي منذ تقديم استقالتها في مايو من العام الماضي، وبالتالي هناك جدل دستوري حول صلاحيتها لتولي اختصاصات رئيس الجمهورية. وإذا كانت أغلب القوى السياسية قد تغاضت عن هذا الجدل المحتدم في سبيل تسيير أمور الدولة في ظل طول أمد الشغور الرئاسي، إلا أنها لا تريد حاليا زيادة الانقسام السياسي وتداعياته الطائفية.
ويعد الخيار الثالث المطروح هو تنفيذ المادة 25 من قانون النقد والتسليف وتكليف النائب الأول للحاكم وسيم المنصوري بمهام الحاكم، وهو الخيار الأمثل بالنسبة لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي لتجنب الاستقطاب السياسي وعدم توسيع دائرة المواجهات السياسية بين الفرقاء.. وفي هذا الإطار عقد ميقاتي 3 لقاءات مع نواب حاكم مصرف لبنان الأربعة على مدى 4 أيام، بهدف تليين الموقف الذي سبق وأن أعلنه نواب الحاكم الأربعة، والذي شدد على ضرورة تعيين حاكم جديد في أسرع وقت ولوحوا خلال موقفهم باتخاذ إجراء مشترك فُهم منه لاحقا أنهم قد يقدمون على استقالة جماعية من مناصبهم لعدم تحمل المسئولية في هذا التوقيت الحرج الذي يشهده لبنان.
وبعد اجتماعات متتالية بين النواب الأربعة ولجان نيابية، طلبوا مجتمعين ضرورة منحهم "الغطاء القانوني" الذي يسمح لهم بإقراض الحكومة من الاحتياطي الالزامي لدى المصرف، حيث أظهرت المعلومات المتداولة أن الحكومة تحتاج 200 مليون دولار شهريا لمدة 3 أشهر للوفاء بالاحتياجات الأساسية للبلاد.
وفي اجتماع لمجلس الوزراء يوم الإثنين الماضي، قرر المجلس طلب الرأي القانوني من الجهات القضائية المختصة حول الغطاء القانوني المطلوب، فيما ردت الجهات بعدم قانونية اقتراض الحكومة من الاحتياطي الإلزامي، والذي هو بمثابة ما يتبقى من أموال المودعين في الجهاز المصرفي الذي تراجع دوره بشكل كبير على مدى السنوات الأربع الماضية. وأصبح مطلب النواب الأربعة لحاكم البنك المركزي مرهونا بعقد جلسة تشريعية لمجلس النواب لإقرار قانون يسمح للحكومة بالاقتراض حتى يخلي نواب الحاكم مسئوليتهم.
أما الخيار الرابع فطرحه التيار الوطني الحر "الفريق السياسي لرئيس الجمهورية السابق ميشال عون" حيث رأى أن المخرج من مأزق الفراغ المحتمل في حاكمية مصرف لبنان، يتمثل في تعيين حارس قضائي، مشددا على أنه من غير الجائز بقاء رياض سلامه بأي صيغة كانت ولا الاستمرار بسياسته. ودعما لهذا الخيار، أعلن وزير العدل اللبناني هنري خوري "وزير محسوب سياسيا على التيار الوطني الحر" أن الوزارة تتحضر للتقدم بطلب تسمية مدير مؤقت لدى قضاء العجلة الإداري "القضاء المستعجل" أمام مجلس شورى الدولة "قضاء مجلس الدولة" ، وذلك في ضوء ما يمكن أن يستجد من تطورات خلال اليومين المقبلين، وتفادياً لأي فراغ يصيب مركز حاكمية مصرف لبنان، وتأميناً لسير المرفق المالي والنقدي.
وفي المقابل، قلل وزير المالية يوسف خليل "وزير محسوب سياسيا على حركة أمل التي يترأسها رئيس البرلمان نبيه بري"من إمكانية الاعتماد على هذا الخيار لكون تعيين الحراسة القضائية يتم على الشركات الخاصة.
وفي هذا الصدد، تستند الحراسة القضائية على نص المادتين 719 و720 من قانون الموجبات والعقود والى نص المادة 589 من قانون أصول المحاكمات المدنية، وهو ما يدفع بالقول إن الحراسة القضائية لا تجوز إلا على شركات خاصة، ولا يمكن أن تتناول مؤسسات عامة مثل البنك المركزي.
ويبقى الخيار الخامس والأخير وهو وقوع الفراغ في حاكمية مصرف لبنان، وهو السيناريو الأصعب والأخطر على لبنان في هذا التوقيت الذي يسعى فيه إلى التعافي من أزمات اقتصادية ومالية غير مسبوقة، حيث أعرب صندوق النقد الدولي أواخر الشهر الماضي عن قلق بالغ إزاء الأزمة العميقة متعددة الأبعاد التي تواجه لبنان لأكثر من ثلاث سنوات، مؤكدا أنها أدت إلى انهيار حاد في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
وحذر الصندوق من المخاطر والتكلفة المتزايدة الناجمة عن مواصلة إرجاء الإجراءات اللازمة، داعيا إلى ضرورة التنفيذ الحاسم لخطة إصلاح شاملة لحل الأزمة وتحقيق التعافي المستدام.
وأوضح صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد اللبناني شهد انكماشا ناهز 40% ، وفقدت الليرة اللبنانية 98% من قيمتها، وسجل التضخم معدلات غير مسبوقة، كما خسر المصرف المركزي ثلثي احتياطياته من النقد الأجنبي، كما ازدادت دولرة النقد وتسارعت وتيرة التضخم لتصل إلى 270% على أساس سنوي في شهر إبريل 2023.
كما أفادت دراسة أجرتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) ونشرت نتائجها الشهر الماضي بأن 9 من بين كل 10 أسر لا يمتلكون المال الكافي لشراء المواد الأساسية بما يدفعهم إلى اللجوء إلى تدابير قاسية للتكيف مع الأزمة. كما تظهر الدراسة أن 15% من الأسر أوقفت تعليم أطفالها، و75% قلصت نفقاتها على الرعاية الصحية، واضطرت 40% من الأسر إلى بيع ممتلكات عائلية.