لم يكن نجيب محفوظ أديبا عاديا مر في تاريخ الأدب العربي و ذهب، ولكنه كان أديبا استثنائيا عبر بقلمه عن وجدان مجتمعه بصدق و خرج من نطاق الحارة الضيقة إلى نطاق أوسع و أرحب.
ومر "محفوظ" بالعديد من المحطات و الانتصارات و الانكسارات في حياته التي امتدت لـ 95 عاما إلى يوم وفاته في 30 أغسطس 2006، و كان من أبرز هذه المحطات و أخطرها أزمة رواية "أولاد حارتنا".
بداية الأزمة
بدأت الأزمة عندما بدأ نجيب محفوظ في نشر روايته " أولاد حارتنا" في جريدة الأهرام ، و التي كان يرأس تحريرها "محمد حسنين هيكل"، وقد آثارت ضجة هائلة و استمرت لمدة طويلة و ثار عليها شيوخ الأزهر وادعوا أن الرواية تجرأت على الذات الإلهية من خلال إسقاطها الرمزي على شخصية " الجبلاوي" و محاكاة لقصص الأنبياء في باقي الشخصيات.
و مع تزايد طلبات المنع أصر "هيكل" على استمرار النشر في الجريدة، ورغم عدم إصدار قرار رسمي بمنع نشرها؛ فإنه وبسبب الضجة التي أحدثتها، تم الاتفاق بين محفوظ وحسن صبري الخولي، الممثل الشخصي للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بعدم نشر الرواية في مصر إلا بعد أخذ موافقة الأزهر، فطبعت الرواية في لبنان من إصدار دار الآداب عام 1967، ومُنع دخولها إلى مصر رغم أن نسخًا مهربة منها وجدت طريقها إلى الأسواق المصرية، و دخلت الأزمة في طي النسيان.
إيقاظ الأزمة من جديد.
ظلت الأزمة نائمة حتى فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في أكتوبر 1988، و كان من ضمن الروايات في حيثيات الفوز بجائزة نوبل رواية " أولاد حارتنا"، و بدأ هجوم الإسلاميين عليه و على روايته و اشتعلت الأزمة من جديد و لكن هذه المرة جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن محملة برائحة الدماء و فحيح الانتقام الغادر، وأفتى أمير الجماعة الإسلامية عمر عبد الرحمن، وقتها، بإهدار دم نجيب محفوظ.
و يروي الكاتب محمد سلماوي في كتابه " في حضرة نجيب محفوظ " : أن الخطة الإرهابية الأولية لاغتيال نجيب محفوظ كانت أن الشخص المنفذ الذي سيقوم بعملية اغتيال نجيب محفوظ سوف يذهب رفقة صديق له إلى بيت نجيب محفوظ قبل تنفيذ محاولة اغتيال بيوم، حيث ضربا الجرس وكان بحوزتهما ورد وشوكولاتة وكان أحدهما يرتدي العقال، وكان في حوزتهما خنجر ومسدس، لكنه لم يكن موجودا، وأخبرتهما زوجة نجيب محفوظ بأنه سيذهب في اليوم التالي في تمام الساعة الخامسة إلى لقاء الأصدقاء، دون أن تعلم عنهما أي شيء، وبالفعل حدثت الواقعة في اليوم التالي، ونشرت كل تلك التفاصيل في الأهرام كأول حديث ل نجيب محفوظ بعد حادث الاغتيال الفاشلة».
و في اليوم التالي في 14 أكتوبر 1994 ، تم تنفيذ العملية أثناء تواجد نجيب محفوظ في سيارته في انتظار صديقه و فجأة شعر كأن وحشا نشب أظافره في رقبته، وسالت دماؤه، وهرب الشخص الذي هاجمه، ولحسن الحظ كان في صحبة نجيب محفوظ صديقه الطبيب وأدرك أن الشريان كان في حاجة إلى تعامل طبي سريع، وخلال دقائق دخل غرفة العمليات في مستشفى الشرطة القريبة من بيت نجيب محفوظ. و تابع العالم كله حالة نجيب محفوظ الصحية و التي خرج منها بجرح في رقبته و أثرت العملية على أعصاب يده اليمنى و لم يستطع أن يكتب من وقتها فكان يملي ما يريده حتى وفاته. وخرج نجيب محفوظ من هذه الأزمة بأعجوبة .
ذكرى وفاة فيلسوف الحارة المصرية
عبر نجيب محفوظ في قصصه و رواياته عن جوهر الحارة المصرية مازجا ما بين الفلسفة و الأدب و علم النفس و السياسة ، راصدا تحولاتها الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية ، و كان ذلك في "الثلاثية" و " زقاق المدق" و "خان الخليلي" ، كما شرّح بصدق عن فلسفة السلطة و ما تصنعه في النفوس و علاقة الحاكم بالمحكوم في "ملحمة الحرافيش". و في ذكراها ال17 ، لا يزال حيا برواياته و قصصه التي خرج بها من نطاقها الضيق إلى آفاق أرحب و أوسع و استحق نوبل التي كانت بمثابة تتويج بمسيرته الحافلة التي امتدت لسبعة عقود.