خمسون عامًا مضت على حرب الكرامة الذي سطّر فيها الأبطال ملحمة ستظل تدرّسها الأكاديميات العسكرية على مستوى العالم، بعد أن غيّرت العديد من النظريات العسكرية.
ولأن معركة السادس من أكتوبر73 غيّرت وجه المنطقة بالكامل (الشرق الأوسط) فقد تغيّر معها شكل الحرب التي وُجهت للمنطقة بعد ذلك؛ فتحولت من المواجهة العسكرية المباشرة إلى المواجهة غير المباشرة بعملية احتلال للعقول، استهدفت قلب الحقائق وتزييف الوعي، وتقديم صور ذهنية سابقة التجهيز (معلّبة) من أجل خلق وعي غير صحيح يمكن السيطرة عليه فى أي وقت.
لم تكن تلك المواجهة وليدة السنوات العشر الأخيرة أو ما يسبقها بعشر أخرى إنما هو استهداف ممنهج مرَّ بالعديد من المراحل كان بمثابة إعداد للمعركة، ظننا من المخطط أنه يستطيع التقليل من النصر الذي حققته القوات المصرية فى أكتوبر 1973 من خلال عملية تدار بشكل احترافي خاصة بعد مرور فترة زمنية ليست بالقليلة (50 عامًا) على النصر بات من حضر تلك الملحمة يقترب من السبعين من العمر ويزيد وندعو الله أن يمد فى أعمار جيل أكتوبر العظيم.
قبل عدة أشهر دفعت إسرائيل بما أسمتها الوثائق الإسرائيلية عن المعركة بعد مرور 50 عامًا عليها بل عرضت الفيلم السينمائي «جولدا» الذي تستهدف به رغم اعترافها بالهزيمة، إلا أنها تحاول فى النهاية التقليل من قيمة النصر الذي تحقق وهو أشبه بدس السم فى العسل، وكذا العديد من المواد الفيلمية التي تحاول إسرائيل بها خلق بروباجندا زائفة تمحو بها آثار الهزيمة التي لحقت بالجيش الذي كانت تطلق عليه «الجيش الذي لا يُقهر».
(1)
لن تستطيع الوثائق التي طرحتها إسرائيل محو اعترافات قادة إسرائيل فى مذكراتهم المنشورة من قبل، بحجم الهزيمة التي وقعت على رؤسها، وكيف حوّل المصريون يوم كيبور من يوم فرحٍ إلى يوم حزن وهو ما نشرته وزارة الأمن القومي الإسرائيلي على صفحتها عن يوم كيبور، قائلة: «منذ عام 1973 أضفى على يوم الغفران جو من الحزن بسبب ذكريات حرب يوم الغفران (حرب أكتوبر 1973) التي تعرضت فيها إسرائيل لهجوم مفاجئ من جانب مصر وسوريا»، إنه اعتراف إسرائيلي بالهزيمة.
ولأن ما دفعت به إسرائيل من وثائق عمدت المخابرات العسكرية الإسرائيلية على حذف العديد من صفحاتها وكذا العديد من الفقرات، تحاول بها خلق حالة محددة بشأن انتصار المصريين فى أكتوبر 73 سوف نتوقف عند نقاط محددة فى تلك الحرب.
فقد استهدفت إسرائيل فى يونيو 67 تحقيق هدف استراتيجي لديها وهو توسيع حدود دولة الاحتلال على حساب الأراضي العربية وهو ما استطاعت تحقيقه؛ فمنذ عام 48 تعمدت قيادة إسرائيل عدم الحديث عن حدود الدولة حتى كشف عبد السلام عارف عام 1958 عن وثيقة كانت فى ملفات حلف بغداد تحمل وجهة نظر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بشأن بعض المناطق العربية المتاخمة لها وأهميتها ل إسرائيل حال ضمها إليها.
لتكشف الوثيقة السياسة التوسعية لدولة الاحتلال وترد على من يحاولون الحديث عن أن ما حدث فى 1973 كان بترتيب بين العدو وأمريكا ومصر لكي تسترد مصر أراضيها بعملية السلام؛ وهو أمر لا يصدقه عاقل لأن إسرائيل منذ 67 لم تترك أرضًا احتلتها إلا سيناء التي حررتها دماء الأبطال من الجيش المصري فى أكتوبر 73 واستردت مصر سيناء بالكامل عقب عملية السلام؛ فلولا نصر أكتوبر لما وافقت إسرائيل على الخروج من سيناء.
ومع عملية صناعة وعي سابق التجهيز (معلّب) من جانب إسرائيل حول أكبر انتصار حدث فى العصر الحديث ( أكتوبر 73).. لا بد أن نعلم حجم ما حدث قبل ذلك التاريخ من إعداد للمعركة على كل المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية والمعنوية، ووضع الجبهة الداخلية التي كانت بمثابة حائط قوي استندت عليه القوات المسلحة عندما تحول اقتصاد مصر إلى اقتصاد حرب؛ فلم يعبأ المصريون بأزمات نقص بعض المواد الغذائية فقد كان الهدف واضحًا هو تطهير الأرض من المحتل واسترداد التراب الوطني مهما كلف المصريين من تضحيات.
تلك الروح (روح أكتوبر) كانت الداعم الأساسي والقوي فى المعركة.
وقد كان لعملية التدريب للقوات قبل المعركة دور كبير فى تحقيق النصر، فهناك قاعدة عسكرية أن التدريب الجيد يوفر الدماء فى المعركة.
فلو توقفنا عند إحدى نقاط التدريب لأدركنا حجم الجهد الذي بذلته القوات قبل الدخول فى المعركة ليكون النصر حليفها.
فمجرد إعداد وحدة مهندسين لفتح ثغرة فى الساتر الترابي كان الأمر يستلزم تدريبها مرتين نهارًا ومرتين ليلاً، ولو فرضنا أن كمية الأتربة التي يلزم إزاحتها لفتح الممر فى خط بارليف هي 1500 متر مكعب، لوجدنا أن الوحدة تجرّف 6000 متر مكعب فى اليوم الواحد من الأتربة والرمال، ثم لإعادة الساتر الترابي إلى ما كان عليه لإعادة التدريب مرة أخرى، وتشكيل 6000 متر مكعب أتربة، كما يستلزم ذلك كراكات لتطهير المجرى المائي من الأتربة التي جرّفت فيه وتحوّلت إلى وحلٍ فى القاع، أي أن تدريب كل وحدة كان يستلزم إزاحة 18000 متر مكعب من الأتربة، فى حين أن العملية الفعلية لا تتطلب سوى إزاحة جزء من 12 جزءًا فقط من تلك الكمية 1500 متر مكعب، ولإتمام تدريب ثماني وحدات بهذا الشكل كان يلزم نقل مليون ونصف مليون متر مكعب من الأتربة.
لقد كانت عمليات التدريب تفوق الحرب الفعلية حتى يكون النصر حليفًا للقوات العابرة لتحرير الأرض.
(2)
لقد كانت إسرائيل منذ الأول من أكتوبر قد تواترت لديها أنباء عن تحركات مصرية سورية على الجبهتين وفق المشروع التدريبي السنوي للجيش المصري، ورغم وجود معلومات من عناصرها حول إمكانية حدوث هجوم إلا أن مائير كانت قد انشغلت باستعادة عدد من اليهود الذين تم اختطافهم من قبل حركة فتح الفلسطينية خلال رحلة لهم بالنمسا، وذهبت مائير للتفاوض بشأن استعادتهم.
وبمجرد عودتها إلى إسرائيل يوم الأربعاء 3 أكتوبر 1973 ترأست مجلس المطبخ الذي استمعت فيه إلى إيجال ألون وموشيه ديان و إسرائيل جليلي، واستمعوا جميعًا إلى العميد اربيه شلومو، مساعد مدير المخابرات الحربية الإسرائيلية، الذي خرج باستنتاج أن الحرب بعيدة الاحتمال.
كان زاعيرا متغيبًا لوعكة صحية أما زافى زامير، مدير المخابرات العامة، لم يدع إلى المجلس أما اربيه شلومو فقد أكد أن لديه القدرة على توفير الإنذار بالحرب قبلها بـ 24 ساعة لكن الحرب مع العرب غير محتملة قبل وقتٍ طويل وأنهم لن يجرؤوا على ذلك، يقصد العرب.
وعندما انتهى من حديثه استرخى الحاضرون على مقاعدهم وانصرف أعضاء المجلس وهم يمنّون أنفسهم بعطلة هادئة.
وفى الثالثة صباح يوم السادس من أكتوبر اتصل زفى زامير، مدير المخابرات العامة الإسرائيلية، من لندن بمائير يبلّغها بمعلومات وصلته بقيام الحرب فى السادسة من مساء السادس من أكتوبر 1973، إلا أن مائير لم تكترث بتلك الأنباء خاصة أن الياهو زاعيرا كان فى مايو من نفس العام، قد أكد لمائير ومجلس الوزراء أن المعلومات التي يأتي بها زامير غير دقيقة حول قيام الحرب فى مايو، ليصدق حديث زاعيرا وتفقد مائير الثقة فيما يأتي به زامير.
لتحدث الصدمة فى إسرائيل ظهر السادس من أكتوبر والتي سنتحدث عن تفاصيلها فى العدد القادم، وما حدث على الجبهة المصرية وعملية استهداف حرب أكتوبر من قبل الإعلام الإسرائيلي.
«خفاجي» وخلق حالة الوعي
تلقيت قبل أسبوعين كتابًا من الدكتور المستشار محمد خفاجي، نائب رئيس مجلس الدولة، واستوقفني عنوان الكتاب الذي يعد بمثابة أكبر عملية تنوير ونشر للوعي فى ظل مرحلة من أخطر مراحل الدولة المصرية.
الكتاب الذي جاء عنوانه «ضمانة المشاركة الشعبية فى الانتخابات الرئاسية.. الطريق الآمن لاستقرار الوطن وتنميته» دراسة تحليلية فى ضوء الفكر الدستوري، يعد بمثابة خارطة طريق لمرحلة مهمة تحتاج إلى مزيد من التنوير فى ظل حرب شرسة تستهدف العقول وتحاول تزييف الوعي.
الكتاب قدّم فيه الكاتب من خلال سبعة عشر فصلاً حوت 37 مبحثًا عرضًا تفصيليًا لحجم التحديات والمخاطر التي تهدد الدولة المصرية ودور قوى الشر فى استخدام أدواتها الإعلامية فى الخارج وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، لتشويه المنجزات التي حققها المصريون خلال الفترة الماضية، ليفنّد الفقيه الدستوري المستشار محمد خفاجي فى كتابه المسار الذي يعد بمثابة الطريق الآمن للحفاظ على الوطن واستقراره وتنميته.
كما يحرص الدكتور خفاجي على التأكيد «أن المشاركة فى الانتخابات الرئاسية هي الوسيلة الأهم والكاشفة عن إرادة الشعب فى اختيار من يمثله».
الكتاب هو دراسة تحليلية استهدفت بناء حائط صد يعتمد على قوة الوعي فى مواجهة المخاطر المحتملة، خاصة أننا على أبواب مرحلة مهمة أعلنت عنها الهيئة الوطنية للانتخابات بإعلان توقيتات العملية الانتخابية لاختيار رئيس الجمهورية لقيادة سفينة الوطن خلال المرحلة المقبلة.
لقد بنى المستشار خفاجي دراسته على رؤية واقعية ونماذج حاول بها تقديم الأمثلة على قدرة الشعوب فى الحفاظ على ما حققته من مكتسبات وإنجازات فى ظل قيادة تدرك حجم المخاطر والتحديات وتحرص على خلق حالة من الثقة والأمل والعمل وإقناع جماهير الشعب بذلك.
وحذر من الانجراف خلف أبواق قوى الشر التي تحاول أن تقضي على استقرار الأوطان، وما حققته من تنمية لتنشر الفوضى والخراب؛ مؤكدًا أن أنسب رد على ذلك هو المشاركة الشعبية فى الانتخابات.
واستنهض الكاتب سلطة ضمير الناخب والتي تعد بمثابة تحقيق استقرار للوطن كما أن المشاركة الانتخابية توحّد الفكر الجمعي.
ثم يفنّد المستشار محمد خفاجي الحق فى التصويت والذي يعد حقًا من حقوق الإنسان وتطوره فى الاتفاقيات القارية، كما اعتبر أن تعبير حزب الكنبة تعبير سيئ السمعة، فالمشاركة الشعبية فى التصويت الرئاسي ضرورة لحماية كبرياء الوطن.
كما أكد أهمية دور الأحزاب المصرية فى خلق حالة وعي لدى المواطنين لحثهم على المشاركة فى الانتخابات.
الدراسة التي جاءت فى 114 صفحة تعد من الدراسات التحليلية المهمة التي توصف المشهد ويحاول الدكتور محمد خفاجي من خلالها التأكيد على أهمية الوعي وأهمية دور الإعلام فى تلك المعركة، وفى نهاية الكتاب يوجه المستشار خفاجي خطابًا مفتوحًا للرئيس السيسي يقول: «إن لسان الشعب المصري الأصيل يقول لمن أنقذ الأمة من الهلاك لقد استطعت فى فترة وجيزة أن تحقق إنجازات عجزت عن تحقيقها دول أخرى تنعم بالرخاء».
إن ما يستعرضه الدكتور محمد خفاجي يتطلب منا أن نتوقف عنده كثيرًا فى معركة بناء الوعي.