عندما يصاب المجتمع الدولي بالعَور

عندما يفقد الشخص إحدى عينيه يُطلق عليه صفة «الأعور»، لأنه بات غير قادر على الإبصار بشكلٍ دقيقٍ، ولأن كثيرًا ما تكون تلك الإصابة خارجة عن إرادة الشخص، فالجميع يتعاطف معه.

لكن فى حالتنا التي نحن بصددها نجد المجتمع الدولي هو الذي فقأ إحدى عينيه بيده عمدًا، ليرى الصورة على غير الحقيقة.

إنها حالة مَرضية متعمدة أصابت المجتمع الدولي، عندما يوجِّه ناظريه باتجاه المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط، فهو يعمل بسياسة الكيل بمكيالين وأكثر، وتغلب على قراراته لغة المصلحة.

ذلك المشهد الذي شهدناه جميعًا خلال الأيام الماضية وعقب عملية طوفان الأقصى التي وجهتها المقاومة الفلسطينية لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وما هي إلا ساعات لنجد سيلاً من تصريحات المجتمع الدولي، تغض الطرف عن الحق وتواصل دعم المغتصب للأرض، محتمية بالحديث عن استهداف المدنيين، متجاهلة المجازر المرتكبة ضد المدنيين من أبناء شعبنا الفلسطيني منذ عام 1948 وحتى الآن، إنه مجتمع مصاب بالعَورِ.

ففي الوقت الذي يتحدث فيه المجتمع الدولي عن حقوق الإنسان والميثاق الدولي وأهمية الحفاظ عليه وضرورة التزام الدول بها، وإطلاق العديد من التحذيرات من قبل المنظمات الدولية بهذا الشأن نجد تلك المنظمات فى حالة صمت سوى عدد من البيانات المقتضبة عملاً بمبدأ ذر الرماد فى العيون؛ لإسكات كل من يحاول كشف سوءة تلك المنظمات المدَّعية حمايتها لحقوق الإنسان وهي فى الحقيقة ليست سوى إحدى الأدوات السياسية للدول الكبرى، وتعمل على تنفيذ سياستها باتجاه المناطق والدول المستهدفة.

(1)
فلم نسمع لمنظمة العفو الدولية صوتًا عما يحدث حاليًا فى غزة سوى بيان مقتضب منذ صباح يوم السابع من أكتوبر وحتى الآن، رغم عمليات القصف والتدمير واستهداف المدنيين والمستشفيات فى غزة، وعملية حصار منذ عام 2007 تستهدف إحداث أكبر عملية إبادة جماعية فى التاريخ.
ورغم اعتراف بيان منظمة العفو الدولية فى السطور الأخيرة بأن ما تقوم به إسرائيل من حصار بري وجوي وبحري لقطاع غزة هو عقاب جماعي ضد سكان القطاع، وأن تقريرها الصادر فى يونيو 2023 أثبت أن إسرائيل قد دمرت منازل الفلسطينيين بشكل غير قانوني، وبدون ضرورة عسكرية، كما أنها ارتكبت جرائم فى الضفة الغربية والقطاع، وصفتها المنظمة بأنها أعمال محظورة واعترافها فى نهاية التقرير بأنها جرائم فصل عنصري ضد الفلسطينيين.
إلا أن البيان الأخير ساوى بين الطرفين صاحب الأرض الذي يدافع عن أرضه وفق الحق الذي كفله له القانون الدولي، والمحتل المغتصب للأرض.
ولم تكن تلك المنظمة وحدها التي فعلت ذلك لكن المنظمة الأمريكية الدولية «هيومن رايتس ووتش» أيضًا حذت حذوها ولم تعلّق سوى بتعليق مقتضب تغاضت فيه عن جرائم الحرب الإسرائيلية وساوت أيضًا بين المغتصب وصاحب الحق.
(2)
الأمر ليس بمستغربٍ ف المجتمع الدولي والقوة الدولية فى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية المتحدثة دائمًا بأنها راعية السلام، كانت أول من أعلنت دعمها لإسرائيل بل قامت بتحريك أحدث حاملات الطائرات لديها وأكبرها «جيرالد فورد»، والتي وصلت إلى المياه الإقليمية الفلسطينية فى شرق المتوسط الثلاثاء الماضي، أعقبها إعلان وزارة الدفاع الأمريكية فى بيان لها عن ترتيبات لنشر حاملة الطائرات «ايزنهاور» فى البحر المتوسط، متوقعة وصولها فى غضون أسابيع.
لتأتي تصريحات وزير الخارجية الأمريكي «بلينكن» وتؤكد أن الراعي الرسمي أكثر عنصرية من إسرائيل، عندما أعلن عن الدعم العسكري الكامل الأمريكي لإسرائيل فى حربها ضد الفلسطينيين، وحاول بلينكن تجميل المشهد قائلاً، إن تلك الأسلحة لكي تدافع إسرائيل عن نفسها رغم أن الولايات المتحدة تشاهد وتتابع كيف يستخدم الجيش الإسرائيلي الأسلحة الأمريكية لهدم المنازل الفلسطينية، وقصف الأحياء السكنية، والمستشفيات، والجامعات، واستهداف سيارات الإسعاف.
ولم تكن الولايات المتحدة وحدها مَن فعلت ذلك، بل تبعتها عدد من الدول الأخرى والاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي الذي يصدّعنا بتقاريره عن حقوق الإنسان، واليوم يساند أكبر عملية انتهاك لحقوق الإنسان تقوم بها إسرائيل وتدعمها الولايات المتحدة الأمريكية، محاولة بدلاً من إيجاد حل عادل وشامل لعملية السلام يقوم على حل الدولتين وإعلان الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967، نجدها تحاول تفريغ القضية بمساعدة إسرائيل بالضغط على قطاع غزة بعمليات القصف والعمل على نزوح أكبر عدد من الفلسطينيين فى القطاع.
(3)
إنها أكبر عملية ممنهجة لتفريغ قطاع غزة لكن أبناء الشعب الفلسطيني كانوا أكثر فِطنة للمخطط المسموم، فأعلن أبناء فلسطين أنهم لن يتركوا أرضهم ولن يتزحزحوا عنها قيد أُنملة، وسيظلون يدافعون عن قضيتهم وعن أرضهم حتى يتم تحريرها وإعلان دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف على حدود الرابع من يونيو 67.
وتظل مصر هي الداعم الأكبر للحق الفلسطيني، والقضية الفلسطينية قضيتها المركزية.
ومنذ اللحظة الأولى وهي تحذر من استمرار حالة الضغط وعدم الاكتراث من جانب إسرائيل بالقرارات الدولية، وعدم الجدية فى العمل نحو تحقيق سلامٍ عادلٍ وشامل.
كما حذرت المجتمع الدولي من استمرار غض الطَّرف عن إيجاد حل حقيقي لتحريك عملية السلام وإعلان دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف.
كما أن تطورات الأحداث كشفت عن عودة مخطط «خريطة حدود الدم» مرة أخرى للمشهد من جديد، والذي كشفت عنه فى خريف العام 2013 صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية عندما نشرت خريطة جديدة للشرق الأوسط أعدها المحلل روبرت رايت تحت عنوان «كيف تتحول 5 دول إلى 14»، وهي تمثل تطويرًا لخريطة حدود الدم التي نشرتها مجلة القوات المسلحة الأمريكية عام 2006 للكاتب رالف بيترز.
ولوضع الخريطة موضع التنفيذ تعتمد الإدارات الأمريكية المتعاقبة على استراتيجية «تحريك السكين فى الجرح»، وبعد الشعور بالألم تبدأ فى إهداء شعوب المنطقة الحبل الذي يشنقون به أنفسهم.
وطبقًا لخريطة النيويورك تايمز فإن ليبيا وسوريا والعراق واليمن ستنقسم على أسس عرقية ومذهبية إلى 14 دولة، من خلال «صراعات محكومة» تشرف عليها الولايات المتحدة، بهدف إنتاج بلدان أصغر، تتراجع قدرتها على الاستقلال بالقرار والخروج من دائرة السيطرة الأمريكية، كما يتم استنزافها عبر مجموعة صراعات بينية طويلة المدى.
وكذا العمل على تفريغ القضية الفلسطينية من خلال عمليات ضغط لتدفع بالشعب الفلسطيني بالنزوح خارج أراضيه، وهو ما حذرت منه مصر، وأدركه أبناء الشعب الفلسطيني فكان ردهم قاطعًا.. «لن نترك الأرض».
وهو تطور يكشف حجم ما يحاك للمنطقة وما يتطلبه من يقظة ووعي لدى الشعوب فى ظل حالة عدم استقرار تضرب العديد من دولها، وهو ما تستغله قوى الشر من أجل النيل منها.
فتطورات الأوضاع فى ليبيا لا تنبئ بالاستقرار وكذا الأوضاع فى السودان تزداد تطوراتها ليس باتجاه الاستقرار لكن نحو مزيد من التوتر، وكذا الأوضاع فى اليمن.
فضلاً عن الأوضاع فى فلسطين المحتلة التي تتجه نحو الأسوأ ما لم يفق المجتمع الدولي ويدرك أهمية إحلال السلام فى المنطقة.
خاصة أن استمرار حالة التوتر وعدم الاستقرار قد تمتد آثارها إلى خارج المنطقة، مما سيهدد السلم والأمن الدوليين.
لقد بات على المنظمات والهيئات الدولية أن تقوم بدورها، فعلى مجلس الأمن أن يدرك خطورة عدم إصداره لقرارات من شأنها وقف الآلة العسكرية الإسرائيلية التي تستهدف المدنيين العزَّل، وعلى الأمم المتحدة أن تقوم بدورها فى تحقيق السلام العادل والشامل.
لقد أصبح لزامًا على القوى الدولية و المجتمع الدولي أن يقف أمام مسئولياته التي يتحدث عنها تحت اسم حقوق الإنسان، وأن يلزم إسرائيل بفتح ممرات آمنة لوصول المساعدات للفلسطينيين، ورفع الحصار المفروض على قطاع غزة والذي يعد أكبر انتهاكًا فى تاريخ الإنسانية لحقوق الإنسان.
إن استمرار المجتمع الدولي بغض الطرف عما يحدث من قِبل الجيش الإسرائيلي تجاه المدنيين من الفلسطينيين، واستمرار دعم وتأييد عدد من الدول الكبرى لإسرائيل لن يخلق حالة توتر وعدم استقرار فى المنطقة فقط بل سيصل إلى العديد من دول العالم.
إن ما يجري إعداده للمنطقة يستوجب حالة من الوعي والإدراك لخطورة المشهد وضرورة توحد الشعوب والحفاظ على أوطانها، بعد أن عاد مخطط التقسيم يطل برأسه من جديد ليهدد أمن واستقرار المنطقة العربية، فى ظل عودة ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سقطة جديدة للبرلمان الأوروبي
يبدو أن البرلمان الأوروبي لا يمل من السقطات المتتالية، فبعد أن حاول ملء الدنيا ضجيجًا حول مجموعة من التوصيات التي أقرها الأسبوع قبل الماضي حول ما أسماه بملف حقوق الإنسان والتي سوف نقوم بتفنيدها والرد عليها العدد القادم.
فلم تمضِ سوى أيام قليلة إلا ووجدناه يعلن تأييده للانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان ضد الشعب الفلسطيني، فى سقطة جديدة من سقطاته أحدثت انقسامًا داخل البرلمان الأوروبي.

أضف تعليق