إن عجز المجتمع الدولي ومنظماته الدولية، عن وقف إطلاق النار على الفلسطينيين بـ قطاع غزة الذي تجاوز الشهر المتواصل، خاصة الأطفال والشيوخ والنساء، يجعل العقل البشري في حيرة من أسرار عدم قدرة المجتمع الدولي لدفع جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان المحتل ضد شعب فلسطين لإكراههم على التهجير القسري، بالمخالفة للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
وفي أحدث دراسة مهمة وملهمة للحق الفلسطيني والعربي، للمفكر والمؤرخ القضائي المصري القاضي الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة، المعروف بدراساته الوطنية والقومية بعنوان: (محاكمة قادة إسرائيل عن جرائم الإبادة الجماعية للمدنيين ب غزة والإكراه على التهجير القسري لسيناء أمام المحكمة الجنائية الدولية -- العقبات والحلول)، يفتح فيها المفكر المصري باباً منصفاً لتنوير الوعي العام العربي لمحاكمة المسئولين الإسرائيليين عن ارتكاب جرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية، في محاكمة عادلة أمام المحكمة الدولية, ويوضح لدول العالم أجمع معلومات خطيرة عن العقبات المستحيلة التي وضعتها أمريكا و إسرائيل ضد المحكمة الجنائية ذاتها, وضد الشعب الوحيد على الأرض الذي يعيش تحت نيران الإحتلال, ويرسم ملامح الحلول الدولية ببراعة للتغلب على تلك العقبات, نعرض لها في ثلاثة أجزاء مهمة، ونعرض للجزء الأول في ست نقاط.
أولاً: معنى جريمة الإبادة الجماعية وصورها والأفعال المعاقب عليها دولياً
يقول الدكتور محمد خفاجى، وفقاً للمادة الثانية من إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية الصادرة من الجمعية العامة للأمم المتحدة، بقرارها 96 (د – 1) المؤرخ في 11 ديسمبر 1946، فإن الإبادة الجماعية تعني إرتكاب أي عمل من الأعمال الآتية بقصد الإبادة - التدمير- الكلية أو الجزئية، لجماعة ما، على أساس القومية أو العرق أو الجنس أو الدين، مثل ما يلي:
(1) قتل أعضاء من الجماعة.
(2) إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي أو الروحي الخطير بأعضاء الجماعة.
(3) إخضاع الجماعة عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً, أي إلحاق الأضرار بالأوضاع المعيشية للجماعة بشكل متعمد بهدف التدمير الفعلي للجماعة كليًا أو جزئيًا.
(4) فرض تدابير تستهدف الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة, أي فرض إجراءات تهدف إلى منع المواليد داخل الجماعة.
(5) نقل الأطفال عنوة بالإكراه من جماعة إلى جماعة أخرى, أي التهجير القسري لهم من أرضهم لأرض أخرى لدى شعب أخر.
ويذكر الأفعال المجرمة بمقتضى المادة الثالثة من تلك الإتفاقية يعاقب على الأفعال التالية:
(1) الإبادة الجماعية.
(2) التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية.
(3) التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية.
(4) محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية.
(5) الإشتراك في الإبادة الجماعية.
وبمقتضى المادة الرابعة من تلك الإتفاقية، يعاقب مرتكبو الإبادة الجماعية أو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة، سواء كانوا حكاماً دستوريين أو موظفين عامين أو أفراداً.
ويشير، سوف تظل المحاكمة الجنائية لمرتكبي جرائم الإبادة الجماعية لقادة الدول المعتدية هو الإلتزام الرئيسي لإتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والتحدي الأكبر الذي يواجهه الدول الكبرى للحكم على مدى مصداقية وجدوى القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني من عدمه.
ثانياً: قادة إسرائيل ارتكبوا جرائم إبادة جماعية لسكان غزة بقصد تهجيرهم قسرياً (جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية)
يذكر الدكتور خفاجى، ارتكبت قوات الإحتلال الإسرائيلي العديد من جرائم الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة من العمليات العسكرية التي تستخدم فيها الذخائر الفسفورية والقنابل والصواريخ، وهي جرائم ترتقي إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بقصف المدنيين والأطفال في الممتلكات الخاصة والمستشفيات والمدارس، والتي راح ضحيتها قتل ما يزيد على عشرة اَلاف مواطن فلسطينى تقريباً بقصد إكراههم على التهجير القسري خارج ديارهم.
ومنذ نحو شهر تقريبًا، ما زال جيش الإحتلال يقتل المدنيين في غزة، خاصة الأطفال والنساء ومنهم المحاصرين الذين حرموا من المساعدات ويجبرون على ترك منازلهم جراء القصف وبلغت وحشية القصف أن ملاجئ الأونروا - وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين- تتعرض هي الأخرى للقصف وقتل موظفيها، ويزداد عدد القتلى كل يوم وتزداد للباقين الأمراض ومشاكل التنفس خاصة الأطفال, إن شعباً بأكمله يُقتل بشكل جماعي يراه العالم أصماً وصنماً متفرجاً دون أدنى ضمان لإحترام قواعد الحرب الدولية.
ثالثاً: أنواع الأسلحة التي استخدمتها إسرائيل ضد المدنيين الفسطينيين في جرائم الإبادة الجماعية فتاكة التدمير
ويضيف، أن تلك الأسلحة أغلبها قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، دعمًا لـ إسرائيل في عدوانها المستمر على غزة, وهي صورة من صور المساهمة الجنائية في جريمة الإبادة الجماعية مما يكسب قادة أمريكا وصف "الشريك", فقد كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، أن تل أبيب استخدمت في قصفها المكثف على غزة، كل ما تملك من قنابل خارقة للحصون وصواريخ لضرب الأنفاق وما حولها من مباني، حصلت عليها كلها من واشنطن، وتستعمل الطائرات في قصفها المكثف قنابل "جدام" الذكية أمريكية الصنع، وهي من قنابل الهجوم المباشر فتاكة التدمير.
وقد يصل مدى قنابل "JDAM" إلى 28 كيلومترًا، فيما يتراوح وزنها بين 550 رطلًا و2000 رطل, ويتم توجيه هذه القنابل بالقمر الصناعي ويمكنها خرق التحصينات، بحمولة 286 كيلوجرامًا من المتفجرات, هذا وذكرت تقارير إعلامية إسرائيلية أن نماذج GBU-28 وGBU-57 من "جدام، وجهت إلى أهداف محددة في غزة, فضلاً عن قنابل "بانكر باسترز"، إذ استعملت طائرات الإحتلال الإسرائيلي قنابل Bunker Busters، أو "خارقة الأقبية"، وهي قنابل غير موجهة بوزن 900 كيلوجرام, وقنابل "بانكر باسترز" معروفة بقوتها التدميرية، ومخصصة للاستخدام من قبل المقاتلات التكتيكية والقاذفات, وتحمل الصواريخ 250 كيلوجرامًا من المتفجرات، بسرعة فائقة لدى إسقاطها، تٌمكّنها من إختراق أمتار من الخرسانة المسلحة, ومن الفئات التي استعملتها إسرائيل في غزة BLU-113 وBLU-109، التي أحدثت أضرارًا جسيمة مدمرة للبنية التحتية، راح ضحيتها أكثر من عشرة اَلاف من الضحايا المدنيين والأطفال, وهذه الصواريخ حملت معها "الفوسفور الأبيض" و"اليورانيوم المنضب" المحرمان دولياً، و اليورانيوم المنضب هو ناتج ثانوي من عمليات تخصيب اليورانيوم, ويُستخرج أيضًا من الوقود المستنفد والذي يتم استخدامه في المفاعلات النووية، وذلك عند فصل البلوتنيوم.
رابعاً: إسرائيل ارتكبت جريمة الإبادة الجماعية العمدية، بنية مسبقة وتخطيط واضح من قبل القادة الجناة للتخلص من ضحايا سكان غزة بالقتل وإخضاع المتبقي لظروف معيشية مستحيلة بقصد تهجيرهم قسرياً
ويذكر الدكتور خفاجى، إن إسرائيل ارتكبت جريمة الإبادة الجماعية العمدية، بنية مسبقة وتخطيط واضح من قبل القادة الجناة للتخلص من ضحايا سكان غزة بالقتل وإخضاع المتبقي لظروف معيشية مستحيلة بقصد تهجيرهم قسرياً, وأن هدف القذف المسلح على المدنيين بـ قطاع غزة هو القضاء بشكل صريح على الفلسطينيين وهو عدوان مميت على المدنيين في انتهاك واضح للقانون الدولي الإنساني، مما ترتب عليه مقتل وجرح اَلاف المدنيين خاصة الأطفال بعد تدمير المنازل والمستشفيات والمدارس وهو نوع من العنف الجماعي.
ويضيف، هي جريمة إبادة جماعية لا تتوقف عند حدود احتواء سكان غزة أو السيطرة عليهم, وإنما بتدميرهم والقضاء على وجودهم وتفكيك النسق الإجتماعي لشعب فلسطين والقضاء عليه وتدميره بصورة جماعية، لمحوه من سياق التاريخ، لدفعهم للتهجير القسري, مما تتحقق معه جريمة الإبادة الجماعية بحسبانها جريمة عمدية، تقوم على وجود نية مسبقة وتخطيط واضح من قبل الجناة للتخلص من الضحايا بالقتل وإخضاع باقي السكان لظروف معيشية مستحيلة تجعل الحياة غير صالحة للسكن أو العيش، بقصد تخييرهم بين رحى جُرمين تهجيرهم قسرياً أو القضاء عليهم.
خامساً: الملاحقة القضائية لا يستهان بها وسوف تقيد حرية القادة السياسيين والجنرالات العسكريين بـ إسرائيل المتهمين ب الإبادة الجماعية وربما أدت لوقف إطلاق النار الذي عجز عنه مجتمع الكرة الأرضية
ويذكر الدكتور محمد خفاجى، إن الملاحقة القضائية لا يستهان بها على المستوى الدولي, ويمكن أن تقيد حرية القادة السياسيين والجنرالات العسكريين بـ إسرائيل المتهمين ب الإبادة الجماعية لسكان غزة لإنتهاكهم القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني أمام الرأي العام العالمي وشعوب الأرض، التي تعاطفت مع الفلسطينيين خاصة الأطفاء الأبرياء, لملاحقة مجرمي الحرب في إسرائيل.
ويضيف، ربما أدت الملاحقة القضائية للقادة الإسرائيليين إلى وقف إطلاق النار الذي عجزت عنه مجتمع الكرة الأرضية, ويمكن للملاحقة القضائية أيضاً أن تقيد إسرائيل وتحد من استخدامها للقوة المفرطة في صراعها مع الفلسطينيين وستكون رادعاً للقيادات المتلاحقة في إسرائيل في المستقبل القريب، وبصفة عامة ستحد من استخدام القوة المفرطة تجاه المدنيين الفلسطينيين خشيةً من تلك الملاحقة.
سادسًا: على فلسطين اللجوء إلى المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية لفتح تحقيق عاجل وتوثيق جرائم إسرائيل للإبادة الجماعية لإكراه الشعب الفلسطيني على التهجير القسري
ويذكر الدكتور محمد خفاجى، إنه يتعين على فلسطين الإستمرار في توثيق وإحصاء الجرائم الإسرائيلية للإبادة الجماعية التي تمت شهري أكتوبر ونوفمبر 2023 بكافة صورها, رغم مشاهدة العالم أجمع لتلك الجرائم بحسبان أن القاضي الدولي شأنه شأن القاضي الوطني، لا يحكم بعلمه الشخصي, وعليهم إعداد ملفات تشمل بينات وأدلة دامغة وكافية على إدانة إسرائيل، ثم اللجوء إلى المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية لمطالبته بفتح تحقيق لمباشرة التحقيق عن جرائم الإبادة الجماعية وإكراه الشعب الفلسطيني على التهجير القسري خارج ديارهم، التي تدخل ضمن إختصاص المحكمة، وذلك طبقًا للمادة 15 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
ويختتم أنه يتعين على فلسطين أيضاً حصر المحاكمات الصورية المستترة الإسرائيلية الداخلية السابقة المتعلقة بقيادات وضباط تورطوا بارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين، وجمع هذه الأحكام القضائية التي تمخضت عنها لتكون أمام بصر الجهات القضائية الدولية لكشف زيف إسرائيل وادعاءاتها الكاذبة للتهرب من الملاحقات الدولية، كونهم لم يخضعوا لمحاكمات حقيقية لم يتمخض عنها ثمة عقوبات على أي فعل من الأفعال التي ارتكبوها من ذي قبل.
ونعرض غداً للجزء الثاني من تلك الدراسة المهمة للدول العربية والإسلامية ودول الغرب من المهتمين بالشرعية الدولية على مستوى العالم.