​​لواء دكتور سمير فرج يكتب: ورغم ذلك أحببت المشير بدوي

​​لواء دكتور سمير فرج يكتب: ورغم ذلك أحببت المشير بدوي​​لواء دكتور سمير فرج يكتب: ورغم ذلك أحببت المشير بدوي

*سلايد رئيسى8-8-2018 | 21:16

قد يسأل البعض عن أسباب تميز القوات المسلحة المصرية، كمؤسسة، تؤدي عملها بانضباط وإتقان وتفان، ليس في المجال العسكري فحسب، بل أيضاً في المجالات المدنية ... والحقيقة أن للقوات المسلحة قيم ومبادئ لا تتنازل، ولا تحيد عنها أبداً مهما حدث، وهو ما ينعكس على أفرادها بالرضا والسعادة. ورغم أن ما سأسرده، باختصار، هو موقف أو قصة شخصية، إلا أن لها دلالاتها عن مبادئ ونهج القوات المسلحة المصرية.

كنت عائداً للقاهرة من بعثتي إلى إنجلترا، في كلية كمبرلي الملكية، بعد أن حصلت على المركز الأول في دراستي، بتقدير امتياز، وهو ما كان سبباً في بقائي في الكلية لعلم آخر، إذ عُينت مدرساً في الكلية، في سابقة لم تحدث في تاريخها من قبل، أن يكون أحد أعضاء هيئة التدريس بها، من خارج دول حلف الناتو أو الكومنولث. ومن ناحيتي، فإنني أُرجع الفضل في تفوقي بالكلية، إلى دراستي في مصر أولاً، ثم إلى حرب أكتوبر 73، التي صقلت خبرتي كضابط، وجعلتني متميزاً في جميع المؤتمرات والندوات العسكرية، التي شاركت بها في لندن، باعتبار أننا أصحاب أحدث خبرة قتالية، في أحدث حرب في التاريخ المعاصر، انتصرنا فيها، وقدمنا للفكر والعلم العسكري مفاهيم جديدة.

فور عودتي إلى القاهرة، لحقني خطاب من وزارة الدفاع البريطانية، موجه إلى وزارة الدفاع المصرية، بتقديم منحة للمقدم أركان حرب سمير فرج، للحصول على دورة Royal College for Defence Studies (RCDS)، ثم للحصول، بعدها، على درجة الدكتوراة في العلوم السياسية والأمن القومي، وهو ما كان قاصراً على الضباط الإنجليز، دون غيرهم. وقد ذكر الخطاب، المشار إليه، إلى أن سبب ترشيح الضابط المصري، يأتي كرد فعل لكفاءته العلمية العسكرية، وأداءه المتميز أثناء دراسته في كلية كمبرلي الملكية، وأثناء عمله كمدرس بها، فضلاً عن أنه يحمل شهادة الأركان حرب المصرية، ذات الخبرة الروسية، وسيكون مفيداً لشخصه، ولمؤسسته العسكرية، أن يمزج خبرته بالعلم العسكري في كلية RCDS. كان ذلك الخطاب بمثابة شهادة تقدير لي، وما يتيحه لي من فرصة، للدراسة في تلك الكلية العريقة، كان درباً من دروب الخيال، التي لم أجرؤ أن أحلم بها يوماً.

وبعرض وزارة الدفاع البريطانية، على نظيرتها المصرية، جاء الرد برفض المنحة، نظراً لحداثة سن الضابط ورتبته، على أن يتم النظر في إمكانية قبولها مستقبلاً. وبالرغم من دبلوماسية الرد، إلا أنه أصابني بصدمة كبيرة، فاتصلت باللواء/ عبد الرحمن البدري، أمين عام وزارة الدفاع، آنذاك، وكان سيادته من خيرة ضباط المشاة، في القوات المسلحة المصرية، ويعرفني جيداً، وطلبت من سيادته إعادة العرض على السيد المشير أحمد بدوي، وزير الدفاع، في ذلك الحين، ومحاولة إقناعه بأهمية تلك المنحة. وأمام ما علا نبراتي من حزن وألم، طلب مني اللواء البدري، الحضور إلى مقر الوزارة مساءاً، ووعدني بأنه سيحاول ترتيب لقاء لي مع السيد وزير الدفاع، لأعرض على سيادته الأمر.

كنت أعلم أن ذلك أمراً استثنائياً، ولكن اللواء البدري حدد المقابلة بالفعل، وبمجرد دخولي إلى مكتب المشير أحمد بدوي، شكرت سيادته على سماحه لي بتلك المقابلة الاستثنائية، وعلى سعة صدره، لسماع رأيي، بعد أن أصدر قراره بالفعل. فابتسم المشير بدوي، قائلاً، أنه يعتبرنا أبناءه قبل أن نكون ضباطاً بالقوات المسلحة، ثم أضاف أنه منذ توليه مهام منصبه، كوزيراً للدفاع، لم يبيت على مكتبه "بوستة" دون البت فيها، إلا تلك المرة الوحيدة عندما عُرضت عليه المذكرة الخاصة بالمنحة المقدمة لي، والتي أبقاها أمامه ليومين كاملين، قبل أن يتخذ قراره برفض المنحة. واستطرد يشرح أسباب رفضه، وهو ما ليس لزاماً عليه، فقال أنه بالنظر إلى الموقف من وجهة نظري، كسمير فرج، فقبول المنحة حق لي، إذ حصلت عليها بجدي واجتهادي، ومن وجهة نظر القوات المسلحة المصرية، فيُشرفها أن يحصل أحد أبناءها على تلك الدرجة العلمية من إنجلترا، اعترافاً منهم بتفوقه، ولكن بالنظر إلى الموقف من خلال القوانين والقواعد والمبادئ المعمول بها في القوات المسلحة المصرية، فإن السفر للبعثات الخارجية، يتم من خلال اختبارات، ومسابقات، وترشيحات، تتم بكل شفافية على من تنطبق عليهم شروط المنحة، وهو ما لا يمكن تنفيذه، في هذه المنحة، لأنها موجهة لشخصك، وليست متاحة لأبناء القوات المسلحة على حد سواء، وهو ما يستلزم استثنائك من القوانين والقواعد، على حساب الغير، وهو ما لا أقبله بصفتي قائماً على القوات المسلحة. ثم أضاف سيادته "تأكد يا ابني إني عارف إنك شاطر وتستحق، لكن قواعد ونظم القوات المسلحة هي الأبقى للجميع". لم انطق بحرف واحد، سوى "حاضر يا أفندم"، وأديت التحية، وقبل خروجي من باب مكتب سيادته، قال لي "أوعى تزعل يا ابني ... لقد ترددت كثيراً قبل أن أحسم قراري بالرفض".

تحجرت الدموع في عيني، وأنا أشكر اللواء عبد الرحمن البدري على ترتيب ذلك اللقاء، الذي بالرغم من أنني لم أحصل فيه على غايتي، إلا أنني ارتحت فيه لرأي السيد وزير الدفاع الذي أكد أن الاستثناءات مرفوضة في القوات المسلحة المصرية، وهو ما يضمن رضاء جميع أفرادها. وبعدها بفترة طويلة استشهد المشير أحمد بدوي، في حادث مروحية، في مطار سيوة، ومشيت في جنازته، احتراماً وإجلالاً لرجل أعلى المبادئ والقوانين في القوات المسلحة، فحمى أبناءها من ميل الأهواء الشخصية ... وهكذا تظل القوات المسلحة المصرية، قوية وعملاقة، بمبادئها وقوانينها، لتبقى حصن الأمان لمصر والمصريين.

    أضف تعليق

    تدمير المجتمعات من الداخل

    #
    مقال رئيس التحرير
    محــــــــمد أمين
    إعلان آراك 2