في كوكب يفيض بالحروب والصراعات، معاناة العالم في العصر الحالي تنضوي داخل تفاصيل المعالم الإدراكية، وفهم المعاني والدلالات الوجودية والفلاسفية المرتبطة بعلاقة الإنسان بنفسه وبيئته ومجتمعه ودينه ومعتقداته.
ومن هنا احتدمت الخلافات وازدادت فرص الصراعات الناتجة عن تعدد المذاهب الفكرية والعقائدية ومن ثم اشتعلت الحروب والفتن.
لكن على جانب آخر، وبمراجعة رسائل متبادلة وأفكار متشابهة بين عميد أدب الواقعية "ليف تولستوي" والإمام "محمد عبده" رائد الإصلاح في العصر الحديث نرى حالة من التلاقي الفكري الثري بالأفكار القيمة والاختلاف الراقي أيضا.
من هو ليف تولستوي؟
اسمه بالكامل ليف نيكولايفيتش تولستوي، مؤلف وأديب روسي من عائلة أرستقراطية، اشتهر بالتمثيل للواقع في أعماله الأدبية. وُلِدَ في 9 سبتمبر 1828 ونشأ في عزبة ياسنايا بوليانا بروسيا.
تعلّم تولستوي الفرنسية والألمانية من المدرِّسين المنزليِّيْن قبل أن يتابع دراسته على مقاعد جامعة كازان؛ لكنّه لم يجد طريقه هناك وغادر دون الحصول على شهادة جامعية.
ثم اتجه تولستوي إلى الجيش بدافع من شقيقه نيكولاس، حيث شارك في حروب القرم وخلال تلك الفترة استغل فترات السلام لتأليف قصصٍ، من ضمنها رواية “الطفولة” التى صارت أول مؤلفاته المنشورة.
ولم يكتف بهذا بل استمرَّ في تأليف مزيدٍ من الروايات خصوصًا "الحرب والسلام" و "آنا كارينينا".
علاقته بالديانة المسيحية
بالرغم من نشأت تولستوي في أسرة تعتنق المسيحية الأرسوذكسية ،إلا أن هناك فجوة وجودية حدثت له في فترة محددة من حياته، ذكرها في كتابه "الاعتراف" أبعدته عن الدين، ثم عاد مرة أخرى بأفكار مختلفة نسبياً عن مسيحيته القديمة.
ويعدُّ موقف تولستوي المعارض للكنيسة الروسية جزءًا من سيرته الذاتية، وقد ترجم ذلك في عدة أعمال أدبية أشهرها نسخته "المصححة" من الأناجيل التي أحدثت تصادم كبيراً بين تولستوي والكنيسة الأرثوذكسية الروسية والتي أصدرت قرار بطرده بعد ذلك عام 1901 نظراً لرفضه بعض المفاهيم المسيحية مثل المعجزات والخلود الروحي والثلوث المقدس، كما رفض فكرة أن المسيح عيسى "ابن الله". وكان دائما يرى أنه إنسان لذلك كان يسميه "يسوع الإنسان" لكنه يحمل قيم ومبادئ اجتماعية مقدسة.
حياته الاجتماعية
تزوج صوفيا أندرييفنا بيرز، ورزقا بـ13 طفلاً 5 منهم توفوا في سن الطفولة. رغم تجربته الأسرية الصعبة، استمرَّ في إبداعاته الأدبية حتى وفاته في 1910، حيث لُقِّبَ بأحد عظماء الأدب الروسي خلال قرن التاسع عشر.
علاقته بالإمام محمد عبده
بالرغم من اختلاف ديانتهم إلا أن الاثنان من أعظم مفكرين عصرهم واجتمعا معاً في العديد من الأفكار المتشابهة، خصوصاً المرتبطة بفكرة "الإصلاح الاجتماعي" وفكرة الوجودية الإنسانية لكن كلاً منهما حسب وسيلته، واتفقا أيضاً على ضرورة البحث حول الأوجه المتشابهة في الأديان للوصول إلى فكرة التوحيد.
رسائل متبادلة بين تولستوي والإمام محمد عبده
في العاصمة الروسية موسكو بالتحديد في متحف تولستوي تستقر رسالة عربية مترجمة بالإنجليزية والفرنسية والروسية من إمام المجددين ورائد الاصلاح في العصر الحديث الإمام محمد عبده مفتي ديار الجمهورية وقت إذن؛ والذي يُعدّ واحدًا من أبرز المجددين في الفقه الإسلامي في العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح وأعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة.
فقد ساهم بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل العربي من الجمود الذي أصابه لعدة قرون، كما شارك في إيقاظ وعي الأمة نحو التحرر، وبعث الوطنية، وإحياء الاجتهاد الفقهي لمواكبة التطورات السريعة في العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية.
ونصت رسالة الإمام على الآتي : (أيها الحكيم الجليل مسيو تولستوي، لم نحظ بمعرفة شخصك، ولكننا لم نحرم التعارف بروحك، سطع علينا نور من أفكارك، وأشرقت في آفاقنا شموس من آرائك ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك، هداك الله إلى معرفة الفطرة التي فطر الناس عليها، ووفقك على الغاية التي هدى البشر إليها، فأدركت أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم ويثمر بالعمل، ولأن تكون ثمرته تعبًا ترتاح به نفسه، وسعيًا يبقى ويرقى به جنسه. شعرت بالشقاء الذي نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة، واستعملوا قواهم التي لم يمنحوها ليسعدوا بها فيما كدر راحتهم، وزعزع طمأنينتهم، نظرت نظرة في الدين، فرقت حجب التقاليد، وصلت بها إلى حقيقة التوحيد، ورفعت صوتك تدعو الناس إلى ما هداك الله إليه، وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه. فكما كنت بقومك هاديا للعقول، كنت بعلمك حاثًا للعزائم والهمم. وكما كانت آراؤك ضياء يهتدي به الضالون، كان مثالك في العمل إمامًا اهتدى به المسترشدون.
وكما كان وجودك توبيخًا من الله للأغنياء، كان مددًا من عنايته للفقراء، إن أرفع مجد بلغته وأعظم أجر نلته عن متاعبك في النصح والإرشاد، هو الذي سموه بالحرمان والإبعاد، فليس ما كان إليك من رؤساء الدين سوى اعتراف لهم أعلنوه للناس بأنك لست من القوم الضالين. فأحمد الله على أن فارقوك بأقوالهم، كما كنت قد فارقتهم في عقائدهم وأعمالهم. هذا وإن نفوسنا لشيقة إلى ما يتجدد من آثار قلمك، فيما تستقبل من أيام عمرك. وإنا لنسأل الله أن يمد في حياتك ويحفظ عليك قولك، ويفتح أبواب القلوب لتفهم ما تقول ويسوق الناس إلى الاهتداء بك فيما تعمل والسلام).
محمد عبده مفتي الديار المصرية - 2 أبريل 1904)
ومن سياق ومضمون رسالة الإمام تتضح بعض المعالم الفكرية لـ "ليف تولستوي" كما تثير قضايا عدة منها: أن تولستوي اهتدى بالفطرة إلى غاية الله في خلقه، وأن نظرته الثاقبة جعلته يدرك حقيقة التوحيد. وأن شقاء الإنسانية بدأ حيث استعمل البشر قواهم فيما لا يسعدهم؛ وأن تولستوي حين زهد في متاع الدنيا كان سلوكه هذا توبيخًا من الله للأغنياء وعونًا من الله للفقراء والمحتاجين. وأن حرمان نفسه من أملاكه وبعده عنها هو أعظم أجر وأرفع مجد حققه بشر. وأن الكاتب الحقيقي هو ما يكتبه.
يرد تولستوي : صديقي العزيز..
تلقيت خطابكم الكريم، وها أنا ذا أسارع في الرد عليه مؤكدًا امتناني الكبير من هذا الخطاب الذي أتاح لي الاتصال برجل مستنير بالرغم من اختلاف عقيدته عن العقيدة التي نشأت عليها وتربيت. ولكن من الديانة نفسها، حيث إن العقائد تختلف وتكثر، ولكن ليس هناك سوى دين واحد هو دين الحق. آمل ألا أكون قد أخطأت إذا افترضت من واقع خطابك أن الدين الذي أؤمن به هو دينك. الذي يرتكز على الاعتراف بالله وشريعته في حب الغير، وأن نتمنى للغير ما نتمناه لأنفسنا. وأعتقد أن جميع المبادئ الدينية تندرج من هذا المبدأ، كاليهودية، والبرهمية والبوذية والمسيحيين والمحمديين.
وأعتقد أنه كلما ازدادت العقائد في الأديان وامتلأت بالمعجزات، ساعدت على تفرقة البشر، وخلقت العداوات. وعلى العكس كلما كانت الأديان بسيطة، اقتربت من هدفها المثالي وهو وحدة الناس جميعًا، وهذا ما جعلني أقدر خطابك وأود استمرار اتصالي بك.
ما رأيك في عقيدة الباب ومذهب بهاء الله وأنصاره؟
وتقبل مني يا عزيزي المفتي محمد عبده كل التقدير والاحترام).
(ليون تولستوي 12 مايو 1904)
رد الفيلسوف الروسي طرح قضايا كثيرة منها: أن الأديان المختلفة إذا اعترفت بوحدانية الله فالتابعون لها غير مختلفين وأن تولستوي يؤمن بالدين الذي يؤمن به الإمام وهو الدين الإسلامي في إطاره الضمني لأنه يرتكز على الاعتراف بالله وشريعته في حب الغير وأن الأديان كلما كانت بسيطة خالية من المعجزات اقتربت من هدفها المثالي وهو وحدة الإنسان، وأن تولستوي يطلب رأي الإمام في مذهبين انتشرا في عصرهما زعم كل منهما أنه يتضمن خلاصة الأديان السماوية، أولهما البابية الذي ظهر في إيران عام 1843، وأعلن صاحبه الشيرازي أنه نبيّ، وسمى نفسه (باب الله)، وثانيهما البهائية الذي أسسه بهاء الله وتولاه من بعده ابنه عبدالبهاء البهائي (1841-1921)، ولا نظن أن الإمام كان عاجزًا عن الرد فقد كثر الحديث عنهما في مجالسه أو مجالس "أستاذه الأفغاني" فالمرجح أنه قد رد على تولستوي في رسالة أخرى.