عاطف عبد الغنى يكتب: حروب الجيل الحائر !
عاطف عبد الغنى يكتب: حروب الجيل الحائر !
لا أتمنى أن يمضى جيلى الصحفى دون أن يترك له بصمة، والجيل الذى أنتمى إليه اقترب من الوصول إلى خط النهاية، وهو الآن يجتاز الأمتار الأخيرة فى ماراثون حياته الوظيفية.
صحيح أن الصحافة ليست وظيفة تقليدية، ولا يرتبط العطاء فيها بعمر يمكن أن ينتهى عنده العطاء، بينما صاحبه على قيد الحياة، إلا أننى لا أتحدث هنا عن الكاتب الصحفى المبدع الذى يتمتع بصحة العقل، والقدرة على التعبير ولو بحاسة الكلام، ويملك من الأفكار والمخزون الثقافى ما يسمح له بالاستمرار، ويمنحه فرصة البقاء، والعطاء، وإمتاع قرائه وجمهوره، إلى ما شاء الله له.
(1)
أتحدث - هنا - عن صنّاع الصحافة والإعلام، القادرين على صناعة تجارب صحفية ناجحة، على مستوى المهنة والجمهور، وهى معادلة ليست سهلة، ولا يقدر عليها إلا الذين يملكون أسرار المهنة، وموهبة الإدارة، إدارة الموارد البشرية قبل الآلات، وهى أيضا مهمة صعبة وسبب صعوبتها، التكوين السيكولوجى للصحفى، وهو خليط من الموهبة، والثقة فى النفس (وليس الغرور)، والالتزام الوظيفى، حيث يمثل عنصر الوقت أهمية كبيرة حين يرتبط فى الصحافة الورقية بدورية الصدور مع تسويد مساحات الورق الأصفر بالمادة الصحفية الجيدة والجاذبة للقارئ، ومع دخول الإعلام الرقمى، على خط المنافسة، زادت المسألة صعوبة إلى حد كبير، على مستوى الوقت والمحتوى.
.. مع الإعلام الرقمى أصبحت المهمة شبه انتحارية، بعد أن صارت الوسيلة الإعلامية، وخاصة البوابات والمواقع الإخبارية أشبه ببحر مالح، لا يمكن أن يتحول إلى نهر مهما سكبت فيه من مياه عذبة، ولا يشبع الشارب منه مهما تناول من صحافة الشاشات المضيئة، التى لا تتوقف عن طلب المزيد من الأخبار مع دوران عقرب الثوانى، وليس الدقائق.
والقارئ الجديد المفطوم على الإعلام الرقمى، قارئ بطبيعته ملول، يبحث كل دقيقة عما يثير مشاعره وعقله، فتراه يقفز بعينه على شاشات «الكمبيوتر، والتابلت، والتليفون المحمول» قفز العصفور على النوافذ، يتابع الأخبار المحلية، بنفس الاهتمام الذى يتابع به أحداث العالم، ويتجول فى مساحة تغطى الكرة الأرضية، من خبر زلزال ضرب اليابان، إلى جديد صراعات الرئيس الأمريكى ترامب وزعيم كوريا الشمالية، أو ملالى إيران، ومن حكايات الجرائم العاطفية التى تحرك المشاعر، إلى أحدث رقصة قادمة من أمريكا الجنوبية تحرك الغرائز، أو خبر نميمة يفضح سياسى أو فنان أو إعلامى مشهور، ويصلح حال مشاركته، على الصفحة الخاصة بهذا القارئ على «فيسبوك» أو «تويتر» أن يمنح صاحبه تميز السبق بين أقرانه من رواد ومحترفى «السوشيال ميديا».. وهذا «السوشيال» صار إدمان الأجيال الثلاثة، (الجد والأب والابن) التى على قيد الحياة الآن (تقدر عدد سنوات الجيل بـ ٣0 سنة)، وليس جيل الشباب أو الأطفال فقط.
(2)
ومن سوء حظ الجيل الصحفى الذى أنتمى إليه أن فرصة القيادة، وأقصد قيادة التجارب الصحفية، وليس مجرد الحصول على منصب، قد أتيحت له فى هذا الوقت الذى تشتد فيه المنافسة بين وسائل الإعلام الصلبة، التى تحاول التشبث بالبقاء، والتأثير، فى الوقت الذى تحاول فيه نظيرتها الإلكترونية، أو الرقمية، أن تكسب مساحات جديدة لنفسها كل يوم خصما من القديم، لذلك صار صنع تجربة صحفية جديدة ناجحة ومميزة صعبًا للغاية، وزادت الصعوبة مع شعور رؤساء التحرير المسئولين، الآن، أنهم محل تقييم دائم، وأنهم يجب أن يكونوا على قدر تحديات المرحلة الانتقالية فى عمر الوطن والدولة المصرية، إضافة إلى التحديات الإقليمية، والدولية، التى تنعكس تأثيراتها على الوطن والدولة.
(3)
وغالبا أنت قرأت أو سمعت كثيرا فى السنوات القليلة الماضية مصطلح «حروب الجيل الرابع والخامس» ويكفى أن أقول لك إن الإعلام المصرى عليه أن يتصدى لهذا النوع من الحروب، وهى حروب إعلامية بامتياز، سلاحها الأول المعلومات، وتوظيفها، وإعادة تدويرها، والقدرة على اختراق الحدود والوصول للهدف أينما كان، ومنصات إطلاقها تملك من القدرات التقنية، والمهنية، ما يمكنها من الوصول للشخص فى غرفة نومه، والتأثير عليه.
وما سبق وصف مختصر لهذه الحروب التى نتعامل معها بتبسيط مخل، واستهتار، لا يليق بخطورتها على الأمن القومى، وإلى اللحظة الراهنة أؤكد أنه لا يمكننا أن نشير إلى دراسة مصرية معمقة ومفصلة تتناول هذا النوع من الحروب وتفصيلاتها.. من الأسلحة إلى المخططاتن والهداف، وطرق الصد والمواجهة، ولا تصلح الاجتهادات التى حملتها مقالات، أو العبارات التى تتردد فى الفضائيات حول المصطلح المتداول على نطاق واسع، إلا عناوين عامة، نكرر فيها ولا نزيد كثيرا.
(4)
وتحت وطأة الهرولة لأجل الإنجاز، وتقديم ما يثبت الذات.. تحت ضغط هذه التحديات أرى أنه ليس جيلى فقط سوف يظلم، ولكن المهنة أيضا سوف تظلم إذا لم تقدم لها الدولة الدعم المطلوب، وليس الدعم المادى فقط هو المطلوب، ولكن الدعم الشامل، بداية من دعم الهيئات التى تشكلت على أثر صدور الجزء الأول من قانون تنظيم الصحافة، إلى دعم المؤسسات الصحفية، لأداء رسالتها المنوط بها أدائها، مع الوضع فى الاعتبار أن دور القائمين على هذه المؤسسات بين قوسين (الصحفية) ليس مجرد البحث المحموم عن جلب مزيد من الدخل والربح لتعويض الخسارة ولو على حساب الرسالة المنوط بها أدائها، وأرجو ألا يأول كلامى السابق بالسلب، مثل أننى أدعو إلى الخسارة والاتكال على الدولة فى تعويض خسارة هذه المؤسسات، أبدا لم أقصد هذا، ولكن أقصد الوصول إلى نقطة التوازن، بين الاستثمار المادى والمسئولية المهنية، أو الدور الرسالى للمؤسسة الصحفية.
(5)
وواقع الحال يشير إلى أن الوسط الصحفى فى حالة انتظار لصدور قانون الصحافة (المكمل لما صدر)، على أمل أن يسهم فى المزيد من ترتيب البيت الصحفى، وإتاحة مزيد من المناخ الصحى الذى يساعد الصحفيين على خوض معارك الوطن، الذى لا بديل له أو عنه، وإنقاذ المهنة على جميع مستوياتها، لمنحها القدرة على المنافسة فى عصر ثورة المعلومات، وإنتاج ما نصدره للعالم المتقدم، ولا نكتفى فقط بالاستهلاك.
وعلى المستوى الشخصى أتمنى لجيلى من أبناء المهنة ألا تضيع جهودهم فى التيه، وأن يترك هذا الجيل الراية مرفوعة لمن يأتى بعده، ويجلس على مقعد القيادة، ولا يتخلى عن قضايا وطنه حال مغادرته للوظيفة، إذا كان لديه كلمة.. شمعة.. تنير الطريق للسالكين.