يشهد عام 2024، ابتداء بتايوان و فنلندا في يناير وصولاً إلى كرواتيا و غانا في ديسمبر، انتخابات لاختيار حكومات جديدة في واحدة من أكبر تجمعات الناخبين في عام واحد عبر التاريخ، ورغم أن هذا الحدث مدعاة للاحتفال، إلا أنه من المرجح أن يكون شاهدًا على واحدة من أشد حالات تآكل الديمقراطية الليبرالية منذ نهاية الحرب الباردة، وربما يصل الأمر في أسوأ الأحوال وفقا لمجلة "فورين بوليسي" الأمريكية إلى ما وصفته بـ "حمام دم"، أو، سلسلة من الانتكاسات.
وبالنظر إلى الإحصائيات، فإن العام المقبل سيشهد إجراء أربعين انتخابًا في دول تمثل 41% من سكان العالم و42% من ناتجه المحلي الإجمالي، وبعض هذه الانتخابات سيكون أكثر أهمية من غيرها، كما أن البعض الآخر سيكون غير قابل للتنبؤ بنتائجها، حيث من المقرر أن يكون العام المقبل مليئا بالنشاط والزخم الانتخابي في الولايات المتحدة وأوروبا، اللتين تعتبران مهد الديمقراطية، أو على الأقل اعتادتا إبراز نفسيهما على هذا النحو.
ورأت المجلة الأمريكية أنه ليس من قبيل المبالغة في هذا الصدد القول إن الهياكل التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، ودعمت العالم الغربي لمدة ثمانية عقود من الزمن، سوف تتعرض للتهديد إذا فاز الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بولاية ثانية في انتخابات نوفمبر المقبل، ففي حين يمكن اعتبار فترته الرئاسية الأولى في البيت الأبيض بمثابة دراما نفسية، بلغت ذروتها في الهجوم شبه العسكري على الكونجرس بعد وقت قصير من هزيمته الانتخابية أمام "جو بايدن"، إلا أن المخاطر والتهديدات المرتبطة بوصوله للسلطة هذه المرة ستكون أكبر بكثير.
ويخشى دبلوماسيون أوروبيون في واشنطن من تعدد التهديدات ذات الصلة، مثل فرض رسوم جمركية شاملة، والمعروفة أيضًا باسم الحرب التجارية، وإقالة الآلاف من الموظفين العموميين واستبدالهم بالموالين المسيسين؛ وسحب الدعم المتبقي لأوكرانيا وتقويض حلف شمال الأطلسي (ناتو). فيما تُعد عودة ترمب للسلطة بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، بمثابة منحة من السماء، حيث تسود توقعات بحدوث شكل ما من أشكال الاستفزاز من جانب الكرملين في دول البلطيق أو أي دولة أخرى متاخمة لروسيا لاختبار مدى قوة المادة الخامسة، الخاصة بالدفاع المشترك لحلف الناتو .
ومع ذلك، فإن الواقع يشير إلى أن اليمين المتطرف سوف يكتسب زخما قبل فترة طويلة من توجه الأمريكيين إلى صناديق الاقتراع، وهو ما يتجلى في بدايات ظهور موجة ثانية من الشعبوية اليمينية في فرنسا وألمانيا، والتي يتابع تأثيراتها كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس على سلوك الحكومة في بلديهما .
ونبهت "فورين بوليسي" إلى أن القضية الخلافية التي تهدد جميع الأحزاب المعتدلة في أوروبا حاليًا هي الهجرة، تمامًا مثلما حدث في عام 2015، عندما سمحت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل بدخول أكثر من مليون لاجئ من الشرق الأوسط فيما ينظر إليه الآن على أنه الموجة الأولى من أزمة الهجرة في أوروبا.
وهذه المرة، بدأت الحجج التي يروج لها حزب البديل من أجل ألمانيا (اليميني المتطرف )، وحزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان في فرنسا، ومجموعات مماثلة في جميع أنحاء القارة، بشأن قضية الهجرة، في التغلغل في التيار السياسي السائد في هذه الدول، واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية.
ودللت المجلة الأمريكية على ذلك بالإشارة إلى أن الأشهر الاثنى عشر الماضية شهدت تقويض عملية صنع القرار في الاتحاد الأوروبي بشكل مستمر من قبل رئيس الوزراء فيكتور أوربان في المجر (الذي يترأس حزب وطني محافظ)، خاصة بشأن توفير المزيد من الدعم لأوكرانيا. فرغم أنه يقف بمفرده حاليا في محاولات تقويض هذا الأمر، إلا أنه من المرجح أن ينضم إليه آخرون، بدءا برئيس الوزراء الجديد روبرت فيكو الذي عاد إلى سلوفاكيا، ورئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني التي أبرمت اتفاقا ضمنيا مع بروكسل، ظلت بموجبه مخلصة لدعم أوكرانيا (خلافا لغرائزها وتصريحاتها السابقة) في مقابل منحها تفويضا مطلقا في السياسة الداخلية الإيطالية.
ولفتت المجلة إلى أنه عقب الانتخابات المقررة العام المقبل في النمسا (الانتخابات العامة وانتخابات البرلمان الأوروبي)، يبدو من شبه المؤكد أن تميل النمسا في تصويتها إلى اليمين المتطرف والمحافظين، خاصة وأنها أصبحت غير مرتاحة لتقديم الدعم الكامل لكييف، ما يؤشر إلى توقع تقليص هذا الدعم قريبا.
وستشهد البرتغال، وهي إحدى الدول القليلة التي تديرها حكومة يسار وسط، الانضمام هي الأخرى إلى مجموعة اليمين و اليمين المتطرف عندما تجرى انتخابات مبكرة في مارس المقبل، حيث اضطر رئيس وزراء الحزب الاشتراكي المنتهية ولايته أنطونيو كوستا إلى الاستقالة من منصبه وسط تحقيقات بشأن التورط في الفساد.
ومن المرجح، وفقا لـ فورين بوليسي، أن تأتي اللحظة الأكثر تفجرًا في شهر يونيو، مع انتخابات البرلمان الأوروبي، حيث إن التعديل الذي يحدث مرة كل أربع سنوات في أوروبا، كان يُنظر إليه دائما في دول كالمملكة المتحدة باعتباره فرصة للتصرف بطريقة أكثر تهورا من المعتاد. ففي عام 2014، صوت الناخبون البريطانيون لصالح نايجل فاراج وحزب استقلال المملكة المتحدة الذي يتزعمه؛ الأمر الذي أدى إلى سلسلة من الأحداث أدت، بعد عامين، إلى الاستفتاء على مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي .
وبعد أن شهدوا الضرر الذي أحدثه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فإن الناخبين في الدول الأعضاء السبعة والعشرين المتبقية في الاتحاد الأوروبي لا يريدون تكرار الأمر نفسه. ومع ذلك، فإن الكثير منهم سوف يستغل الفرصة للتعبير عن كراهيته للسياسة السائدة من خلال اختيار بديل شعبوي. وقد يرى البعض أنه خيار منخفض المخاطر، معتقدين أن البرلمان الأوروبي لا يمثل الكثير.
ولكنهم بهذه الفعلة –وفقا للمجلة الأمريكية- يكونوا قد خدعوا أنفسهم. ومن الممكن تماما أن تظهر القوى المختلفة لليمين المتطرف ككتلة واحدة أكبر. وقد لا يؤدي هذا إلى تغيير في تركيبة المفوضية الأوروبية بشكل فوري، إلا أن أي صعود متطرف من هذا القبيل من شأنه أن يغير الديناميكيات الإجمالية في مختلف أنحاء أوروبا.
وسوف تجد الأحزاب اليمينية المتطرفة نفسها أكثر قوة وجرأة في انتهاج سياسات قومية أكثر راديكالية. وفي البلدان التي هم فيها أعضاء صغار في الإئتلافات الحاكمة ( كما هو الحال في السويد )، فإنهم سيمارسون المزيد من الضغوط على شركائهم المحافظين لدعم تحركاتهم.
وعلى العكس من ذلك، فإن البلدان التي شهدت عودة مفاجئة للتيار السائد (الاشتراكيين) مثل إسبانيا، من غير المرجح أن تشهد استمرارا لهذا الاتجاه، حيث لم يتحقق نجاح رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز في درء اليمين إلا من خلال عقد صفقة مع الانفصاليين الكاتالونيين، وهي الصفقة التي أدت إلى احتجاجات القوميين الإسبان وإلى وضع غير مستقر في البلاد.
وتسود أيضا توقعات بفوز حزب القانون والعدالة اليميني المتطرف في بولندا خلال انتخابات يونيو المقبل، خاصة وأن حكومة حزب القانون والعدالة استغلت السنوات التي قضتها في الحكومة لمحاولة كسب وسائل الإعلام والمحاكم في اتجاهها.
وتعتبر النتيجة الأكثر إثارة للقلق في عام 2023 هي عودة حزب خيرت فيلدرز اليميني المتطرف في هولندا إلى الصدارة، وعلى حافة الوصول إلى السلطة. كما أنه في ألمانيا، أكبر اقتصاد في أوروبا، بدأ الرفض الذي فرضته بعض الأحزاب الرئيسية بشأن الدخول في إئتلافات مع حزب البديل من أجل ألمانيا (اليميني الشعبوي) في التلاشي، حيث يتعاون حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ حاليا مع حزب البديل من أجل ألمانيا في البلديات الصغيرة.
وإذا فاز حزب البديل من أجل ألمانيا بأكبر عدد من المقاعد في انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو، حيث تضعه استطلاعات الرأي حاليا خلف حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بشكل هامشي فقط ومتقدما على الأحزاب الثلاثة فيما يسمى ائتلاف شولتز، فإن الزخم سوف يتغير بسرعة، وستدخل ألمانيا منطقة مجهولة (وفقا لفورين بوليسي).
ومع ذلك، هناك انتخابات واحدة من المقرر إجراؤها في الجزء الأخير من عام 2024، يمكن أن تسفر ليس فقط عن نتيجة وسطية، لكن نتيجة يحقق فيها الليبراليون أغلبية كبيرة، إنها بريطانيا، الدولة التي غادرت قلب أوروبا، أي أن نتيجتها لن تكون مؤثرة على السياسات الأوروبية، بخلاف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي تشهد صعودا ملحوظا للأحزاب اليمينية بها، والتي قد يكون لها تأثير كبير على السياسة المستقبلية للاتحاد الأوروبي.