مع بداية القرن الأول الميلادي، تباركت أرض مصر بقدوم العائلة المقدسة إليها قادمة من بلاد فلسطين ، وفي رحاب وادي النيل، وفوق روابي ووديان أرض مصر الطيبة، وعلي ضفاف نيلها العـظيم، وجدت العائلة المقدسة الأمان والحماية.
ورحلة العائلة المقدسة إلي أرض مصر هي حقيقة كتابية وردت نصوص عنها في العهد الجديد: «إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: «قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَي مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّي أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَه»ُ. فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلاً وَانْصَرَفَ إِلَي مِصْرَ. وَكَانَ هُنَاكَ إِلَي وَفَاةِ هِيرُودُسَ. لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ الْقَائِل: «مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْني». (مت 2: 13- 15)، ووردت نبوات عنها في العهد القديم: «هُوَذَا الرَّبُّ رَاكِبٌ عَلَي سَحَابَةٍ سَرِيعَةٍ وَقَادِمٌ إِلَي مِصْرَ، فَتَرْتَجِفُ أَوْثَانُ مِصْرَ مِنْ وَجْهِهِ، وَيَذُوبُ قَلْبُ مِصْرَ دَاخِلَهَا» (إش 19 : 1)، «مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْني» (هو 11: 1)، (مت 2: 15).
وهي حقيقة تاريخية: حيث وردت تفاصيل الرحلة في ميامر قديمة كتبها آباء الكنيسة، ومن أقدم الميامر التي وردت بها تفاصيل عن رحلة العائلة المقدسة ميمر البابا ثاؤفيلس الإسكندري البطريرك الـ 23 (385 ـ 412م)، وميمر الأنبا قرياقوس أسقف البهنسا (القرن السـابع)، وميمر الأنبا زخارياس أسقف سخا (نحو 693 ـ 723م)، إلي جانب ما ذكره السنكسار القبطي والدفنار القبطي (تحت يوم 24 بشنس)، وما ورد في كتب تاريخ الكنيسة وتاريخ البطاركة وتاريخ الكنائس والأديرة.
وهي حقيقة أثرية: حيث ما زالت هناك آثار تؤكد مجيء العائلة المقدسة لأرض مصر منها: أديرة وكنائس أثرية وهياكل ومذابح أثرية ومغائر قديمة، ومنها صخور وأحجار، إلي جانب حفائر وأطلال، وآبار وأشجار، وهذه الآثار تمتد علي طول البلاد الواقعة علي مسار الرحلة، ويضاف لذلك الأيقونات الأثرية والمخطوطات والقطع الفنية.
ومن البركات الروحية: أن الهروب كان لحكمة في التدبير الإلهي، ولم يكن ضعفاً أو سلبية، ولكن السيد المسيح أراد أن يعـلمنا حكمة الابتعاد عن مصادر الشر، ويمكن وصف الهروب علي أنه حكمة وتفضيل للسلام، فـ السيد المسيح أراد أن يرشدنا لاختيار طريق السلام، ومع مبغضي السلام كان صاحب سلام، وليس الهروب خوفًا ولا جُبنًا ولا ابتعادًا عـن المواجهة، والدليل علي هذا أن السيد المسيح واجه الشيطان في عـبادة الأوثان التي كانت منتشرة في أرض مصر، وبدد الأصنام في مصر، ولم يكن الهروب بسبب الخوف أو العجـز.
وأيضاً من بركات الهروب إلي مصر، أنه مهما كان حجم حيل المضاد ومؤامرات الأشرار، فإن الحفظ الإلهي أقوي وأعظم، وأن التدبير الإلهي يعلو فوق التفكير البشري، وأن الله يتدخل في الوقت المناسب، وبالطريقة المناسبة، وقد أراد الله أن يمنح أرض مصر بركات عظيمة. وأصبحت بلادنا مصر أرض مباركة، يملأ الله أرضها بالخير والسلام والأمان، وبالنماء والرخاء. وأيضاً كانت تحركات العائلة المقدسة بإعلانات سمائية، لكي نتعلم السير بحسب القصد الإلهي، والإرشاد الإلهي.
وبلا شك فإن رحلة العائلة المقدسة هي من أهم الركائز للحضارة القبطية، حيث إنها أعطت لهذه الحضارة عمقًا ورسوخًا واستمرارية، لأن السيد المسيح بذاته جاء إلي أرضها وباركها، وتحطمت أوثان مصر خلال زيارته لها، وبهذا بدأ التغيير العقائدي والفكري من المعتقدات الوثنية إلي بزوغ الإيمان المسيحي، وكأنه يطهر أرض مصر من الوثنية، ويضع حجر الأساس للكنيسة المصرية. ومنذ وقت مبكر في تاريخ المسيحية أقيمت الكنائس والأديرة علي امتداد مسار الرحلة.
مما اعتبر من عوامل نشأة وتجمع واستقرار تجمعات عمرانية ارتبطت ببعض مواقع ومحطات هذه الرحلة المباركة، وما تبع ذلك من تأثيرات جغرافية وديموجرافية وحضارية. وكان لرحلة العائلة المقدسة تأثير علي تسمية بعض البلاد والأماكن التي مرت بها.. وكانت للرحلة أيضاً تأثيراتها علي الأيقونات والأعمال الفنية، وأيضًا كتابات الأدب القبطي من الميامر والمخطوطات والنصوص المكتوبة باللغة القبطية أوجدت كتابات أدبية باللغة القبطية خاصة بهذه الرحلة، وترجم جزء منها إلي اللغات السريانية والحبشية والعربية واللغات الحديثة، وأيضًا الألحان والمدائح والقراءات و الطقوس الكنسية المرتبطة بهذه التذكارات والمناسبات، إلي جانب الاحتفالات الشعبية السنوية في مناسبات وتذكارات رحلة العائلة المقدسة، والاكتشافات الأثرية للكنائس والأديرة المرتبطة بمسار الرحلة، والتصميمات والطرز المعمارية القبطية المستوحاة من تاريخ وآثار الرحلة.
القيم الإنسانية: رحلة السيد المسيح لأرض مصر تتضمن قيم إنسانية سامية، ففيما هو قد تألم يستطيع أن يعـين المتألمين والمتعـبين والمحتاجين، لقد ذاق آلام الهروب من قوي الشر والظلم وسفك الدماء، ليوجه أنظار العالم كله نحو المتألمين والمهاجرين واللاجئين والنازحين والهاربين من مخاطر الحروب ومن ويلات الظلم والذين ليس لهم مسكن أو مأوي.. ومنهم الأطفال الذين بلا مأوي. ولكي يرسخ الرب فينا قيم إضافة الغـرباء وإكرام الضيف والاهتمام بالغريب والضيف، ومساندة ومساعـدة كل المتألمين والمتعـبين والمحتاجين وكل الذين ليس لهم أحد يذكرهم، وخلال تلك الرحلة ذاقت العائلة المقدسة قسوة الجوع والعـطش وتعـرضت لظروف مناخية قاسية لتوجه أنظارنا نحو إخوتنا في الإنسانية الذين يتعرضون للمجاعـات أو الجفاف أو الكوارث أو الاعتداءات بأنواعها أو الذين يعيشون في العـراء أو الخلاء.
استغرقـت رحـلة العائلة المقدسة لأرض مصر بحسب بعض التقديرات التاريخية مدة ثلاث سنوات ونصف تقريباً، أو تزيد قليلاً علي ذلك، وبحسب البردية التي نشرتها جامعة كولون الألمانية سنة 1997م، ظلت العائلة المقدسة بأرض مصر حوالي ثلاث سنوات وإحدي عشر شهراً (أربع سنوات إلا شهر واحد). وهذه البردية ترجع للقرن الرابع أو الخامس الميلادي، وعثر عليها بمنطقة الفيوم بمصر.
ومصر التي قدمت الحماية للعائلة المقدسة في أوائل القرن الأول الميلادي، هي الآن في كنف الحماية الإلهية.. حمي الله مصر من كل شر.