نعم إنها قضية القرن ، بل قضية العمر..عمر كل إنسان يشعر بإنسانيته ويحترمها، ويتمنى أن تصان ويصونها الآخرون.. قضية العمر لكل من رفض وواجه هذه الجريمة الشنعاء فى حق شعب أعزل لا يحمل سوى إصراره وإيمانه بضرورة الحفاظ على حقه وإعادته من مغتصب احترف أكل الحقوق وهدرها، واغتصاب التاريخ والجغرافيا وسرقتهما.
فى لاهاى وقف العالم الحر ذو الضمير الحي فقط وليس ذلك العالم الذى مات ضميره، وعمت المصالح الخاصة قلبه وعيونه، وقف هذا العالم الحر، وليس ممثل "جنوب إفريقيا " وحدها، أمام منصة "العدل الدولية" ومعه ملف قانونى يتألف من 84 صفحة، ليقول للبشرية كلها، الآن ولمن سيأتون بعدنا:"نعم.. إسرائيل ارتكبت بكل برود ووحشية، ومع سبق الإصرار والترصد، وفى ظل صمت وتخاذل عالمي، ارتكبت جريمة "الإبادة الجماعية"، والتي هى بحسب الاتفاقية الدولية، لا تعني أفعال القتل فحسب، بل اضطهاد جماعة وتجويعها وحرمانها من الخدمات الأساسية فى الحياة، وبحسب اتفاقية عام 1948، يعاقب مرتكبو الإبادة الجماعية سواء كانوا حكامًا دستوريين أو موظفين عامين أو أفرادًا، ويمكن توجيه تهمة ارتكاب الإبادة الجماعية لدول أو لأفراد.
هذا المشهد الذي تمثل وتجسد فى مقر المحكمة بـ لاهاي ، ربما ما كان ليكون لولا أن إسرائيل من الأطراف الموقعة على اتفاقية الإبادة الجماعية الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1948، وبالتالي لا يمكنها تجاهل الدعوى، أو المخاطرة بصدور حكم غيابي ضدها.
وقف الطرفان المدعي والمدعى عليه، وقد مثل جنوب إفريقيا فريق قانونى ضمّ عددًا من المحامين والخبراء القانونيين، فى مقدمتهم "جون دوغار"، وهو محام وأحد أبرز خبراء القانون الدولى، وكان مقررًِا خاصًا للأمم المتحدة فى الأراضي الفلسطينية، وعمل قاضيًا فى محكمة العدل الدولية سابقًا، أما إسرائيل والتى قررت "المغامرة" والحضور والدفاع عن نفسها، وهذا فى حد ذاته "تحوّل مهم وخطير فى سياستها، وإن كان فى إطار أن المجرمين يزدادون إجراما والمتهمين يتهمون بلا أى كسوف أو خجل، فقد حضرت دولة الاحتلال بممثل قانونى عنها بعدما قررت تمزيق كل "براقع الحياء"، وأعلنت أنها ستدافع عن نفسها فى هذه القضية، بل زادت من تبجحها عندما قالت إن حركة حماس تتحمل كامل المسئولية الأخلاقية عن الحرب التي بدأتها، وأنها تتصرف بـ"أخلاقية لا مثيل لها"- على حد قول النتن يا هو- فى حربها ومجازرها داخل غزة والضفة، بل راحت إلى حد أبعد من ذلك فى الصلف والغطرسة عندما قارن المتحدث باسم حكومتها قضية جنوب إفريقيا بـ"فرية الدم"، ويقصد بذلك الرواية الشهيرة بأن اليهود قتلوا مسيحيين لاستخدام دمهم فى طقوس قديمة.. حقًا هؤلاء الصهاينة المجرمين مثلما سجل التاريخ باسمهم أبشع الجرائم سجل أيضا باسمهم أغرب صور التبجح والغطرسة.
قرار المحكمة لم يكن فى حد ذاته مكمن الأهمية القصوى بالنسبة لنا ولكل محبى العدل والسلام على هذه الأرض، إنما فكرة مثول هذه الدولة المغتصبة المحتلة، هذه الدولة المجرمة أمام محكمة دولية تحاسب وتسأل على جرائمها، هي "الأهمية" المقصودة والهدف المرجو، ويبقى لنا أن نؤكد أن المقاومة فكرة لا تموت والحق الذى وراؤه مطالب لا ولن يضيع أبدًا.. ويوم الحساب قادم لا محالة فى الأرض والسماء.