إسماعيل منتصر يكتب: «خواطر حرة جدا»: الألمان والإخوان!

إسماعيل منتصر يكتب: «خواطر حرة جدا»: الألمان والإخوان!إسماعيل منتصر يكتب: «خواطر حرة جدا»: الألمان والإخوان!

الرأى25-9-2018 | 19:56

خرجت من سينما مترو فى تلك الليلة سعيدًا منتشيًا..

سينما مترو كانت واحدة من أجمل وأرقى دور العرض السينمائى فى مصر وكانت تتميز بعرض أجمل وأحدث الأفلام السينمائية العالمية..

فى تلك الليلة من ليالى شهر أغسطس من عام 1966 قضيت ثلاث ساعات كاملة أشاهد فيلمًا من أشهر أفلام الحرب العالمية الثانية وكان اسمه "هل تحترق باريس"؟.. وقد لعب بطولته اثنان من ألمع نجوم السينما الفرنسية.. آلان ديلون وجان بول بولموندو..

كانت الساعة تقترب من الواحدة صباحًا عندما خرجت من السينما التى كانت ولا تزال موجودة فى شارع سليمان باشا بمنطقة وسط البلد..

كانت الشوارع قد أفرغت حمولتها من البشر وبدت أكثر نظافة ولمعانًا بفعل عربات الرش التى كانت تغسل شوارع القاهرة.. وكانت نسمات الصيف المنعشة تتحرك على راحتها فوق الشوارع وحول العمائر بدون خوف من أن تلتقطها أنفاس المارة وتحبسها فى الصدور (!!!)

سرت على قدماى منتعشًا بأجواء تلك الليلة الساحرة وقررت أن أعود إلى منزلى بحى شبرا سيرًا على الأقدام.. وفى مثل هذه الأجواء الساحرة وجدت أفكارى وقد انطلقت على راحتها تصاحبنى فى طريقى إلى المنزل.. تمسك بيدى فى تفلتها وتجرى تسبقنى ثم تعود فتنتظرنى.. تقفز من على يمينى أحيانا ومن على يسارى أحيانا.. تنهمك فى حركتها ثم تعود فتطير فوق رأسى لتحلق بى إلى أجواء بعيدة (!!!)

وهكذا رحت أستعيد مشاهد الفيلم الذى شاهدته للتو.. هل تحترق باريس؟.. وأسترجع حكايته..

الفيلم مأخوذ عن قصة واقعية حقيقية.. وقد وقعت أحداثه فى عام 1944 بعد نجاح قوات الحلفاء فى غزو نورماندى وبدأوا يتحركون لتحرير باريس من قوات الاحتلال الألمانى..

كانت الحرب العالمية الثانية على وشك أن تنتهى بانتصار الحلفاء.. وبدأت القوات الألمانية التى تحتل باريس فى الاستعداد للانسحاب منها..

فى تلك الأثناء صدرت أوامر الزعيم النازى هتلر لقائد القوات الألمانية فى فرنسا والحاكم العسكرى لباريس.. بإحراق العاصمة الفرنسية وتدمير كل معالمها قبل الانسحاب.. انتقامًا من الفرنسيين ومن قوات الحلفاء..

وبالفعل أعطى الجنرال الألمانى ديتريش فون شولتز قائد قوات الاحتلال الألمانية أوامره لضباطه وجنوده لزرع المتفجرات حول وداخل كل معالم باريس المشهورة والمعروفة.. استعدادًا لاستخدامها فى حرق وتدمير باريس فور رحيل القوات الألمانية عنها.

كان القائد الألمانى يقيم فى قصر جميل تطل شرفته الرئيسية على باريس.. وعندما علم عمدة باريس بما يفعله الجنود الألمان سارع إلى القصر الذى يقيم فيه القائد الألمانى يرجوه ويتوسل إليه ألا يحرق باريس!..

كان الجنرال شولتز القائد الألمانى مصابا بالربو.. وقد حدث أثناء استقبال عمدة باريس أن أصيب بنوبة من نوبات المرض اللعين فخرج إلى شرفة القصر الواسعة المطلة على باريس يستنشق بعض الهواء النقى.. ولحق به عمدة باريس الذى انتهز فرصة وجوده بمفرده مع القائد الألمانى وقال له: سيدى الجنرال.. انظر إلى باريس.. انظر إلى قصر فرساى وقصر الأليزيه.. انظر إلى كنيسة نوتردام ومتحف اللوفر وبرج إيفل وحدائق التوبليرى.. انظر إلى عاصمة النور والحفاوة واسأل نفسك أيهما تفضل أن تحرق باريس وتدمرها فيلحق بك وبأسرتك وأبنائك وأحفادك العار.. أم أن تعود يوما لزيارة باريس فيهتف لك الناس ويشيرون إليك.. هذا هو الرجل الذى لم يحرق باريس!..

لم يرد القائد الألمانى لكنه راح يفكر طويلا عقب انصراف عمدة باريس..

سأل الجنرال الألمانى نفسه.. هل يريح ضميره العسكرى ويطيع أوامر قائده الأعلى أم ينحاز إلى ضميره الإنسانى ويخالف أوامر هتلر ويعرض نفسه للإعدام رميًا بالرصاص؟!

كانت مشكلة الجنرال الألمانى أنه تربى منذ طفولته على قيم الجمال والحضارة والإنسانية.. كان يهوى زيارة المتاحف والمعارض الفنية والأثرية وغيرها.. وكان مولعًا بزيارة الكنائس والكاتدرائيات والقصور وكل ما أنتجه العقل البشرى من فنون تخدم قيم الجمال والحضارة والإنسانية.

ظل الجنرال الألمانى يفكر طوال الليل هل يعطى أوامره بإنقاذ باريس أم تكون هذه الأوامر هى حرق باريس؟!

وفى الصباح عزم القائد الألمانى أمره.. انتصر ديتريش فون شولتز الإنسان الذى تربى على قيم الجمال والحضارة على ديتريتش فون شولتز الجنرال الذى تربى على العسكرية وإطاعة الأوامر.. وهكذا أعطى الجنرال الألمانى أوامره بتفكيك كل الألغام والمتفجرات التى زرعها جنوده وضباطه حول معالم باريس الشهيرة وداخلها.

هكذا نجت باريس.. هكذا لم تحترق باريس!..

انبهرت بقصة الفيلم الواقعية وبلغ من شدة انفعالى بها وتأثرى بها أن انطلقت فى رأسى فكرة مجنونة!

قررت أن أكتب خطابًا للجنرال الألمانى الذى كان لا يزال حيًّا فى تلك الأيام أشكره فيه على ما قدمه للحضارة والإنسانية.. وشرعت فى صباح اليوم التالى فى كتابة الخطاب بالفعل!..

سيدى الجنرال العظيم فون شولتز اسمح لى أن أقدم لك بالأصالة عن نفسى وبالنيابة عن كل المصريين عظيم احترامى وتقديرى لما فعلته وما قدمته من خدمة لحضارة الإنسان وتاريخه.

سيدى الجنرال.. مصر هى أم الحضارة ولذلك هى تقدر كل حضارة وقد ساهمت أنت فى الحفاظ على الحضارة ولذلك يسعدنى أن أوجه لك الدعوة لزيارة مصر أم الحضارة ومهدها..

وانطلقت أفكارى بلا عنان فتخيلت الصحف الألمانية تنشر الخطاب وتخيلت الحكومة الفرنسية تدعونا نحن الاثنين.. الجنرال الألمانى وأنا لزيارة باريس.

وبدأت بالفعل بالبحث عن عنوان السفارة الألمانية فى القاهرة لكى أقدم لهم خطابى وأطلب منهم ترجمته وإرساله إلى عنوان الجنرال الألمانى الذى كنت أجهله بالطبع.. لكن راحت السكرة وجاءت الفكرة كما يقولون فقد خشيت أن يؤدى ذهابى إلى مقر السفارة الألمانية إلى ما لا يحمد عقباه..

واعتبرت إرسال خطابى إلى الجنرال شولتز مشروعًا مؤجلاً.. ثم بالتدريج بدأت أتخلى عن الفكرة حتى اختفى مشروعى تمامًا من دائرة تفكيرى..

وتدور الأيام وأسافر إلى فرنسا بعد مرور أكثر من 30 عامًا على رؤيتى للفيلم الذى أثار إعجابى.. وأرى باريس وأشاهد معالمها وتقفز إلى سطح ذكرياتى قصة الجنرال الألمانى بكل تفاصيلها فرحت أترحم عليه (!!!)

ولم أسرد هذه الحكاية الطويلة من أجل تسلية القارئ.. هذا هو آخر ما أفكر فيه.. وإنما أردت أن نطرح على أنفسنا جميعًا تساؤلات فى منتهى الجدية..

لماذا يحافظ إنسان على القيم الحضارية لأعدائه.. بينما يحاول آخرون تدمير هذه القيم الحضارية لبلادهم؟!..

لماذا رفض الجنرال الألمانى تدمير حضارة بلد يمثل له عدوًا بينما يسعى ويخطط أشخاص مثل سيد قطب وبديع والشاطر والبلتاجى لإحراق بلادهم وتدميرها من أجل الجلوس على عرش مصر؟!..

لماذا هذا الفارق الكبير والهائل بين الألمان والإخوان؟!

أضف تعليق

وكلاء الخراب

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2