شهر يونيو الحزين عام 1967، هذا الشهر، من ذلك العام، مرت فيه أحلك ذكريات حياتي، وحياة جموع المصريين. كنت لا أزال ضابطاً صغيراً، برتبة ملازم أول، وسنى لا تتجاوز العشرين عاماً، وحل هذا الشهر وأنا ضمن كتيبتي، فى مواقعنا فى الكونتلا، على خط الحدود مباشرة مع إسرائيل، الروح المعنوية فى السماء، لكل أفراد القوات المسلحة المصرية، وأنا منهم سندخل تل أبيب.فجأة جاء الخامس من يونيو، والضربة الجوية الإسرائيلية، لتدمر مطاراتنا، وقواتنا الجوية تقريباً، لتصبح قواتنا فى سيناء دون غطاء جوي. وبدأ الهجوم الإسرائيلى على سيناء، وصدرت الأوامر لنا بالانسحاب بلا خطة. وكانت الفاجعة الكبرى. ممر متلا مغلق. عربات محروقة، ومدمرة على طول الممر، والطريق عبارة عن كتلة من النيران، تتصاعد منها ألسنة اللهب، والدخان. وهالنى منظر المدافع المضادة للطائرات، محترقة بفعل قنابل النابالم، وعليها طاقمها. كتلة واحدة. لقد التحم الجندى المصرى مع سلاحه،وآثر أن يحترق معه، على أن يتركه لينجو بنفسه، وهو يرى الطائرات الإسرائيلية تتوجه صوبه، وتهاجمه.
أصيبت سيارتى ونحن ننسحب جميعا نحو قناة السويس، ووصلنا بعد ثلاثة أيام، إلى ضفاف البر الغربى للقناة. يوم التاسع من يونيو. المنظر أكثر من بشع، فقدنا كل السلاح، والمتبقى لنا هو شراذم من جنود الكتيبة، وضباطها. وعلى الضفة الشرقية للقناة، نرى عربات الجيب الإسرائيلية، تتحرك على أرض سيناء، رافعة العلم الإسرائيلي. وجاءت الكارثة الكبرى عبد الناصر يتنحى.
لقد بكيت فى هذا اليوم، كما لم أبك فى حياتى قط. الجيش المصرى تحطم. وفقدنا سيناء. وعبد الناصر يتنحى.
بدأنا منذ ذلك اليوم، فى بناء الخط الدفاعى على ضفاف القناة، على مرأى من الإسرائيليين، وهم يبنون خط بارليف على الضفة الشرقية للقناة، والعلم الإسرائيلى مرفوع عليها واليهود من كل الدول الغربية مجتمعون على خط القناة، وفقاً لتعليمات جيشهم... فكنا نسمع منهم يومياً مئات الشتائم لجنودنا، لكننا ظللنا نعمل فى صمت، لبناء الدفاعات. وبدأت الاشتباكات بيننا على الخط، لا يفصلنا عنهم سوى 200 متر فقط، هى عرض القناة، وكانت التعليمات ألا نرد إلا بأوامر.
وبدأ أحد الاشتباكات، وبدأ العدو الإسرائيلى فى الضرب، ونحن ساكنون، فى انتظار ورود الأمر بالرد. فما كان من أحد جنودي، إلا أن سحب مدفع ب10، وأطلق النار على الدبابة الإسرائيلية، التى كانت تطلق نيرانها علينا من فوق الردم، فدمرها فى الحال. واستمر الاشتباك يومها لساعات، لأفاجأ بعدها بتقديم هذا الجندى للمحاكمة العسكرية، لأنه قام بالضرب دون أوامر. فانفعلت بشدة لذلك، وأخبرت قائد الكتيبةبعدم موافقتى على هذا القرار، فطلب منى أخذ اجازة، حتى تستريح أعصابي، عدت فيها إلى القاهرة،فى منزل شقيقتى وزوجها، فكرى كمال، الذى كان زميلاً لأشرف مروان، وكان مدعوا عندهم على الغداء فى ذلك اليوم، وحكيت لهم القصة، بإيجاز، مؤكداً أن الروح المعنوية، للجنود، ستنخفض.
انتهينا من الغداء، وانصرف بعدها أشرف مروان، وعاد مرة أخرى فى المساء، ودعانى للخروج معه، فاعتذرت لسوء حالتى النفسية، ولكن مع إصراره، اضطررت إلى النزول معه، من منزل شقيقتى فى منشية البكري، أمام منزل الرئيس عبدالناصر. فوجدته يعبر الطريق، ويمرق إلى منزل الرئيس، فسألته عن وجهتنا تحديداً، فرد على قائلاً «لقد حكيت قصتك اليوم للرئيس عبد الناصر، وطلب مقابلتك»، فدخلت معه، وأنا فى قمة ذهولى. وبعد دقائق قليلة، حضر الرئيس عبدالناصر، فحييته، وانصرف بعدها أشرف مروان. فقال لى الرئيس اتعالى اتعشى معايا... أنا هاكل جبنة بيضا وسلطة خضرا وعيش ناشف. وهضيف لك أنت بيض مقلي»، ثم قال لى «احكى الحكاية»، فسردت له ما حدث، فرد قائلاً هل تعلم أنه بتدمير تلك الدبابة، تم ضرب مدينة السويس لمدة ثلاث ساعات متواصلة؟ ولك أن تتخيل حجم الخسائر التى حدثت هناكب. ثم قام واتصل بوزير الحربية، ليستمع منه إلى المزيد من التفاصيل، وطلب منه أن تكون سلطة الرد فى الاشتباكات، لقائد اللواء الموجود بالفعل فى المنطقة. ثم استفسر منه عن أمر الجندى المصري، الذى دمر الدبابة الإسرائيلية، وطلب من وزير الحربية إلغاء المحاكمة العسكرية، مع إعادة التنبيه على القوات بعدم فتح النيران إلا بأوامر.
وعاد بعدها ليجلس معى دقائق أخرى، حدثنى فيها عن أهمية المرحلة التى نمر بها، من حيث إعادة بناء الجيش والدفاعات، مؤكداً أنه باستكمالها، ستكون سلطة الاشتباك، حينئذ، للضباط الموجودين على خط النار. وبالفعل، وبعد مرور عام واحد، تم استعواض الأسلحة، واستكمال الدفاعات، وأصبحت سلطة الاشتباك للقائد المباشر، كما وعد الرئيس.
وأكد على الرئيس عبدالناصر، بعدم ذكر لقائى معه لأى شخص، وألا أذكر تفاصيل ما دار بيننا فيه، ولا حتى لأشرف مروان. ثم نظر إلى طعامي، فوجدنى لم أمسه، فقلت له ان فرحتى بإلغاء المحاكمة العسكرية للجندى التابع لي، تكفينى لهذه الليلة. وانتهى اللقاء. واليوم، وفى ذكرى ثورة يوليو، وجدت نفسى استدعى تفاصيل هذا اللقاء، ولا أجد حرجاً فى مشاركتكم إياها، بعدما احتفظت بها لأكثر من خمسين عاما.