د. عزة بدر تكتب لـ «دار المعارف»: خلاخيل من فضة (قصة قصيرة)

د. عزة بدر تكتب لـ «دار المعارف»: خلاخيل من فضة (قصة قصيرة)د. عزة بدر تكتب لـ «دار المعارف»: خلاخيل من فضة (قصة قصيرة)

* عاجل30-9-2018 | 21:44

تفصلنى عن البيت هوة عميقة , أريد أن أصل إلى السكن إلا أن الطرق إليه مسكونة بالحُفر , أدور حوله فلا سبيل إلىّ سواه , فكرت بأن أفتل فستانى الملون حبلا , وأن أحصل على خطاف أربطه بحبل الفستان.

وأصعد , أبحث عن رقعة صغيرة من الأرض , ولو بحجم ثقب إبرة تكون بداية لمحاولتى, تكون نقطة الصفر للانطلاق إلى ثغرة أصل منها إلى غايتى , إلى السكن , لكن البيت كان محاطا بخندق مكون من عديد من الحفر العميقة , تبينت فى بعضها قطعا من القطن تفوح منها رائحة البنزين .

كان كل شىء قابلا للاشتعال حتى نسيج فستانى بأليافه الصناعية , عدت ثانية إلى بيت أبى ولدهشتى وجدته محاطا بنفس الحُفر , وكان هناك أيضا خندق مستطيل يحيط بالبيت من جميع أطرافه , ورأيت أسلاك الكهرباء العارية تطل من مكامنها , من أعماق كل حفرة بدت كالهاوية , عدت أدراجى إلى السكن.

لم يعد لى حيلة سوى حبل فستانى , فتلته وربطته بالخُطاف وحاولت الصعود , صعدت بمشقة وأنا ألهث, أتشبث بحبل الفستان , خايلتنى امرأة تنام فى سريرى مستيقظة وفى يدها مرآتى, كانت تستخدم أحمر شفاهى , ويتبدى جسدها فائرا من بين طيات قميصى , شهقت وحاولت أن أعود أدراجى إلى أسفل , كانت الحُفر تبدو أعمق أعمق .

وعندما أتممت محاولتى للوصول إلى نقطة الصفر , إلى الرقعة الصغيرة التى بدت مضيئة بين الحُفر التى شكَل سوادها وبياضها رقعة واسعة كبيرة بدت كرقعة الشطرنج , كنت اللاعبة الوحيدة , وكانت أصابعى أحصنة, وطابيات للمقاومة .

عندما نزلت وجدت أناسا قد تجمهروا من حولى , كان بأيديهم كثير من الرفش , وحفنات من تراب , ولدهشتى وجدت من بينهم أبى المتوفى, وأمى العائشة على ذكراه , وأختاى ساكنتا الفيلا المجاورة، وأخى الذى آثر أن يعيش بجانب ضريح المسجد يفرد سجادته , ويصطنع من ذراعه وسادة ينام عليها فى الخلاء, ولدهشتى وجدته ترك سجادته , وأقبل علىّ , كان الجميع يسدون المنافذ حتى لا أستطيع الهرب، وحتى لا أعود إلى البيت القديم, ولا لفيلا شقيقتىّ, و لا حتى بجانب ضريح المسجد .

وكانت المرأة ساكنة سريرى تنظر من عل , ولا زالت ترسم شفاهها بأحمر شفاهى .

كان الجميع من حولى يتلقانى بزخات من تراب, ولدهشتى وجدتهم يدفعوننى إلى حفرة بالكاد تتسع لى، وكأنهم هيأوها لى من قبل , إذ ما كدت ألجها حتى اتسعت لجسدى كاملا , كانت عميقة , أكثر عمقا من أى شىء , تحسست بقدمىّ ترابها ورفشها فلم أستشعر تحت قدمى قطنا مبللا بالبنزين , ولا أسلاك كهرباء عارية،  فاطمأنت نفسى وبينما كنت أغوص فى الحفرة , كنت أعجب لأنهم كانوا يساعدوننى على الغوص أكثر , كانوا يحفرون من حولى لتعميق الحفرة , يقتربون وفى أيديهم مزيد من التراب والأحجار المسنونة والرفش, كانوا يلقوّننى كلمات ما , فهمت منها أنهم يريدوننى أن أبقى فى تلك الحفرة للأبد , وأدركت أن لا أحد يريدنى , وأن وجودى ينغص عيشهم جميعا , لاحظت تعجلهم فأخى يريد إكمال تهجده, وسجادته فى انتظاره عند ضريح مسجد الشيخ الذى يعتقد فى قدراته الخارقة, وأمى تريد أن تزمزم أكفانها عقب حلم رأت فيه أبى يناديها ويلوَح لها من بعيد بمنديل أبيض, مكتوب على طرفه حرف من اسمها وآخر من اسمه.

وأختاى كانتا تعدان لتزويج ابنتيهما, وحجزتا فى الفندق الكبير الضخم ذى الخمسة نجوم, ولا يتسع وقتهما سوى للذهاب للحائكة لترصيع فساتين السهرة بما تودان من خرز ولؤلؤ, وخيوط من برق السماء , ونجوم قد نزلت خصيصا من أعاليها لتشهد الحفل , وحين بدأ الجميع فى إهالة التراب علىّ , كان قلبى الحى ينبض سريعا , وكان يدق عاليا , وكان جسدى يفيض باللبن والقشدة , ويمتلىء بالبساتين , وثمار التفاح , والتوت دانية القطوف, وكانا نهداىّ يختلجان, يرتعشان فى انتظار نشوة غامضة , وكان دمى يبرق ويستبين فى عروقى, رائقا من تحت بشرتى شاهقة البياض, وساقاى ترقصان فى خلاخيل من فضة , وسُرتى قد اختمر بها عجين له رائحة فذة, وعناقيد من العنب كانت تتدلى ثرية من كل أنحاء جسدى لكن أحدا لم يلتفت إلىّ , وعندما مر بسيارته المرة تلو المرة , ورآنى أغوص فى الحفرة , وهم يهيلون علىّ التراب , كان يتأملنى بأسف , يتوقف قليلا عند نقطة الصفر ثم يبدأ رحلته بسيارته نحو الطرف الآخر من الطريق , كدت أناديه لكن عزّت علىّ نفسى .

ترى هل لأن الرادمين كُثر فلن يأبه أحد لأمرى ؟ ! أم لأن من يهيلون التراب ذوىّ , وأقاربى وأهلى ؟

كانت أسئلتى تنمو كشجرة صبار خضراء شائكة, وعندما وجدوها اقتربوا منى لقطعها لكن سكينهم كان ثلما, وانشقت ثمارات الصبار عن لبن أبيض ناصع البياض, خلته دمى فى صورته الأخيرة , كان رائقا ومحاطا بأشواك الصبارة, وينثال على وجهى وجسدى الفائر فأدهن به كل خلجة فىّ , ولم أكن أدرك تأثيره المُعجز إلا عندما انتفضت, وقمت من حفرتى وكأننى ولدت من جديد .

أضف تعليق

تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2