من توشكى الخير إلى القاهرة.. يا صديقي إنهم يزرعون فوق سطح القمر

الأحد الماضي وبالتحديد فى تمام الساعة السابعة والنصف صباحًا، صعدت إلى الطائرة من القاهرة متجهًا إلى مطار أبو سمبل الدولي، كانت الوجهة « توشكى الخير » كما أحب أن أسميها أو أصفها، نعم فهي تستحق ذلك الوصف لما ستعرفونه عن تلك المنطقة وما شهدته خلال السنوات الأربع الماضية.

في الطريق وبعد عبورنا للنيل عند ثنية قنا باتجاه الجنوب الغربي بدأت صورة الأرض من طائرة النقل العسكرية، التي كانت تقل وفدًا إعلاميًا وعددًا من أعضاء الحوار الوطني تتضح، لتستطيع معها أن تميز الكتل السكنية والأودية ومخرات السيول والأراضي الزراعية، خاصة أن أجواء الصيف صافية تمامًا، تختفي فيها السحب، التي تحجب الرؤية.

في تلك الأثناء بدأت أنظر من النافذة ناحية الأرض الممتدة بلونها الأصفر ضمن الصحراء الغربية، التي تقع فى نطاق حدود محافظة الوادي الجديد لم تمر سوى ما يقرب من 20 دقيقة تقريبًا حتى بدأ المشهد يتغير، ففي وسط ذلك اللون الأصفر الذي تتخلله بعض القمم لتلال صخرية يغطيها اللون الوردي أو الأسود.

بدأت تظهر فى الأفق صورة كنا لفترات طويلة لم نرها، دوائر متراصة بانتظام تغير فيها لون الصحراء إلى اللون الأخضر، دوائر قطر الواحدة منها يتراوح بين الـ 75 والـ 150 فدانًا.

مشهد يشبه لوحة رسمها فنان حالم لمستقبل أكثر إشراقًا، ولأن المشهد من السماء مبهر، لكنك عندما تنزل إلى الأرض وتتعرّف على تفاصيله وحكاياته يكون أكثر إبهارًا.

ورد إلى خاطري تساؤل مُلح ما هذا الذي يحدث فى الجنوب الغربي من مصر وبالتحديد على بُعد 87 كيلو مترًا من أبو سمبل؟!

هل بُعث بناة الحضارة التي غيرت وجه العالم قبل أكثر من 7000 عام من جديد، ليغيروا وجه الصحراء ويصنعوا معجزة أخرى بما تحمله الكلمة من معنى؟! أم أن أحفاد الأجداد هم من بعثوا الحياة فى أرض موات؟!

إنها أرض تشبه أرض القمر، فهل من الممكن لك أن تتخيل أن يزرع فوق سطح القمر؟!

أم أن الأمر درب من دروب الخيال جاء نتيجة خداع بصري لطول فترة النظر من نافذه الطائرة إلى الأرض، فى ظل درجة حرارة خارجية تقترب من 53 درجة مئوية.

تبلغ المسافة بين القاهرة و أبو سمبل 857 كيلو مترًا جوًا، أما عبر الطريق البري فتبلغ 1152,5 كيلو متر.

وصلنا إلى مطار أبو سمبل بعد ما يقرب من ساعتين من الطيران، لنقطع بعد ذلك المسافة من مطار أبو سمبل الدولي إلى توشكى الجديدة التي تبلغ 87 كيلو مترًا بالسيارة فى جو ترتفع درجة حرارته، لكن الشغف لزيارة هذا المشروع العملاق ومتابعة الصورة وتفاصيلها على أرض الواقع بعد أن شاهدنا جزءًا منها من نافذة الطائرة جعلني ومن معي من الزملاء نتجاهل درجة الحرارة.

كانت زيارتي الأولى إلى توشكى فى 12 يناير من عام 2003 عندما افتتح الرئيس الأسبق حسنى مبارك مزرعة الأمير الوليد بن طلال ومحطات طلبات مبارك العملاقة، الذي كان يستهدف زراعة 100 ألف فدان فى ذلك الوقت.

تذكرت ذلك المشهد، لأكتشف أن حلم الـ 100 ألف فدان تبخر ولم يبق منه سوى 400 فدان فقط هي ما تم استصلاحها خلال الفترة من 1997 وحتى 2017.

قطعت السيارة الطريق باتجاه المشروع فى طريق ممتد ضمن شبكة الطرق القومية الجديدة ترافق الطريق أعمدة الشبكة القومية لنقل الكهرباء، مشهد الأرض على جانبي الطريق فى بداية خروجك من مطار أبو سمبل الدولي متجهًا إلى الشمال الغربي لتصل إلى مشروع توشكى، قمم جبلية وتلال صخرية سوداء تحيط بها الرمال تشعر معها وكأنك أمام صورة جوية لسطح القمر.

بدأت تظهر أمامي من نافذة السيارة التي تقلنا باتجاه المشروع مجموعة من الدوائر المنزرعة بالقمح فى الآودية بين تلك التلال السوداء وقد تم حصاد المحصول وتقوم الآلات الزراعية بتجهيز الأرض لموسم زراعة جديد.

الميكنة الزراعية الحديثة تسيطر على المشهد، الدوائر على جانبي الطريق تزداد فى الظهور مع اقترابنا من مفارق الطرق أبو سمبل - شرق العوينات؛ أبو سمبل أسوان ؛ أعمال ازدواج الطرق التي تجرى على قدم وساق، لنتجه إلى الشمال، نعبر ترعة الشيخ زايد باتجاه توشكى الجديدة لنصل إلى الشركة الوطنية لاستصلاح وزراعة الأراضي الصحراوية.

كانت هناك أسئلة عديدة تلح على خاطري تبحث عن إجابة، خاصة أني فى العدد الماضي قد تحدثت عن ذلك المشروع، الذي غاب لعقود طويلة رغم أنه بدأ التخطيط له والعمل على دخول مياه النيل للمفيض فى عام 1977 وافتتح فى 1982، لكن الحلم لم يكتمل وأعيد إحياؤه فى 1997 ليسير أبطئ من السلحفاة ويتبدد حلم الـ 3 ملايين و700 ألف فدان حسب الدراسات التي أعدت للمشروع فى ذلك الوقت ولا يرى النور منه سوى 400 فدان فقط.

ويقف المشروع ما بين مؤيد ومعارض، وعقب 2011 ولإيمان الدكتور كمال الجنزوري بأهمية هذا المشروع القومي العملاق، بدأ فى إعادة توجيه الأنظار إليه مرة أخرى.

عبرنا بالسيارة تلك المزرعة الضخمة من النخيل ذات الأنواع الأجود عالميًا، ذات القنوان الدانية وكذا زراعات الفاكهة من المانجو والعنب والليمون.

لفت انتباهي تلك اللوحات الممتدة على طول الطرق داخل المزارع، إنها أشبه بعملية توحيد للمفاهيم؛ لوحات تحمل عبارات تصنع حالة من الوعي والانتماء لدى كل العاملين بالمشروع.

رسائل مهمة لكل من يمر عليها، وكأنها ترسم الفلسفة العامة لهذا المشروع العملاق وتكشف سر نجاحه ليتحول من مشروع لم ينجز منه على مدى أكثر من 20 عامًا سوى 400 فدان (منذ 1997 وحتى 2017) تشمل 216 فدانًا منزرعة بالنخيل و162 فدانًا منزرعة بالعنب ليتم استصلاح وزراعة 420 ألف فدان خلال 4 سنوات فقط.

توقفت عند بعض العبارات الملهمة منها (غبار العمل خير من زعفران العطلة.. لا يوجد ضعيف بل يوجد إنسان يجهل مواطن قوته، البدايات دائمًا صعبة، الإهمال فساد يجب مقاومته، التمني بلا إرادة نوع من أحلام اليقظة، المجاملة فساد، الاستثناء فساد، الزرع لما يشوف صاحبه بيربى).

ولأنني من أبناء الريف تذكرت مقولة جدي دائمًا لنا وكذا والدي رحمهما الله عندما كانا يحفزانا على الذهاب إلى الغيط مبكرًا، كان يقول «الزرع يفرح لما يشوف صاحبه بدري».

توقفنا داخل مزرعة النخيل التي تبلغ مساحتها 37 ألف فدان بها ما يقرب من 11 نوعًا من التمور ذات العائد الاقتصادي الأعلى عالميًا بلغت 1,6 مليون نخلة.

التقينا اللواء توفيق سامي توفيق، رئيس الشركة الوطنية لاستصلاح وزراعة الأراضي الصحراوية.

رحب بالوفد الذي كان يضم عددًا كبيرًا من الإعلاميين وعددًا من أعضاء الأمانة العامة للحوار الوطني؛ ليروي لنا تفاصيل الحكاية ولنكتشف معها حجم المعجزة، التي تحققت على تلك البقعة من أرض مصر.
ولأنه رجل تربى داخل المؤسسة العسكرية المصرية فالحفاظ على الأمن القومي المصري هو جزء من يمين الولاء الذي أقسمه، كما أن المؤسسة العسكرية لا يعرف أبناؤها المستحيل.

ففي عام 2014 تم التوجيه بضرورة دراسة التحديات التي تواجه مشروع توشكى، وفى عام 2017 تم تحديث كل الدراسات الخاصة بالمشروع فى تلك الأثناء تمت الاستفادة من التجارب التي تمت فى مشروع شرق العوينات للاستفادة منها فى ظل تشابه الظروف المناخية ومواصفات التربة بين المنطقتين ( شرق العوينات – توشكى ).

تم استئجار 1000 فدان فى منطقة قريبة من مفارق الطرق بين توشكى و أسوان وارقين و شرق العوينات ليرى كل من يعبر الطريق الأمل على أرض الواقع ونجحت التجربة، كما تم زراعة 25 ألف فدان بالقمح، وفى عام 2018 تم البدء فى تنفيذ مشروع التمور وفى عام 2020 بدأت الشركة فى مشروع تنمية 500 ألف فدان التي استطاعت أن تنفذ منها حتى الآن وخلال 4 سنوات فقط 420 ألف فدان، يصل حجم العمالة المدنية بها 4 آلاف مهندس زراعي وفني وعامل من المدنيين.

ويستكمل اللواء توفيق سامي، قائلاً: منذ اللحظة الأولى اتخذنا قرار أن هذا المشروع لا يقبل الفشل خاصة بعد نجاح التجارب التي قمنا بها خلال الفترة من 2017 وحتى 2020.

تمت مواجهة كل التحديات وتوصيل المياه والتغلب على أحد أكبر التحديات فى المشروع وهو تشغيل الفرع الرابع والذي ظل الحائط الصخري بطول 9 كيلو مترات وعرض 20 مترًا عقبة فى طريقه لسنوات، فاستطاع الأبطال من رجال الهيئة الهندسية نسفه لتعبر المياه الفرع الرابع وتعبر معها الحياة لـ 300 ألف فدان.

لقد بلغت المساحة المنزرعة بالقمح فى توشكى فقط هذا العام 320 ألف فدان، أنتجت ما يقرب من 900 ألف طن من القمح، استطاعت أن توفر بحسب الأسعار العالمية الحالية للقمح ما قيمته 522 مليون دولار.

ومن المستهدف أن تصل المساحة المنزرعة بالقمح فى توشكى 500 ألف فدان لتبلغ المساحة الإجمالية للمشروع 700 ألف فدان.

ولأن أرض المشروع لا تزال أرضًا بكرًا، ولأن العاملين به من أبناء هذا الوطن يدركون أهميته بالنسبة للأمن الغذائي المصري فالعمل فى كل قطاعات المشروع يجري على قدم وساق.

فى مزرعة النخيل توقفت مع أحد العاملين بالمشروع من الشباب من أبناء أسوان كان يقوم بعملية تكييس عزوق النخيل، وهي إحدى المراحل المهمة للحفاظ على الثمار لتكون ذات جودة عالية، فهو شاب فى نهاية العقد الثالث يعمل بالمشروع منذ 5 سنوات يتقاضى راتبًا 8000 جنيه، يعمل لمدة أسبوعين ثم يحصل على إجازة 10 أيام، خلال فترة إجازته يروي لأسرته تفاصيل ما تحقق من إنجاز على أرض الواقع، ينتظر فتح باب التقدم للحصول على وحدة سكنية بمدينة توشكى الجديدة لكي يتقدم إلى هيئة المجتمعات العمرانية ويحصل على وحدة له ولأسرته وينقل الأسرة كاملة إلى هناك ليكون بالقرب من عمله.

كما يجري بالمشروع زراعة مجموعة من الزراعات التحميلية منها زراعة الذرة، التي تم تحميلها فى بعض المسافات بين خطوط النخيل، وكذا تحميل بعض الزراعات العطرية والخضر فى إطار فلسفة انتهجتها الشركة الوطنية لاستصلاح الأراضي الصحراوية وهو الحفاظ على كل قطرة مياه والاستفادة منها.

كما أن تلك الزراعات تعد بمثابة حقول تجريبية (استرشادية) لمدى صلاحية أرض المشروع لزراعات أخرى.

كما تم استهداف زراعة عدة أصناف ذات جودة عالية وطلب عالمي عليها من المانجو والعنب، لتحقيق عائد اقتصادي عالٍ للمشروع.

كما شمل المشروع زراعة الذرة الصفراء للمساهمة فى حل أزمة توافر الأعلاف الحيوانية، وكذا مشروع زراعة الفول السوداني وهي من المشروعات ذات العائد الاقتصادي العالي وكذا زراعة البطاطس، حيث تم إنشاء مصنع لإنتاج البطاطس نصف المقلية بطاقة إنتاجية 10 أطنان فى الساعة.

ويعد التصنيع الزراعي إحدى الخطط المستهدف العمل عليها فى المشروع ففي القريب سيتم افتتاح مصنع إنتاج خشب MDF – HDF من جريد النخيل بطاقة إنتاجية 400 متر مكعب/يوم.

انتقلنا إلى مزرعة العنب ثم بعض مزارع المانجو وكذا مزارع القمح بالمشروع، لا تعبر منطقة إلا وتجد نبتًا قد أظل الأرض من حوله ليدل على عزيمة وقدرة هؤلاء الأبطال ممن ابتعدوا تمامًا عن الضوضاء وضجيج السوشيال ميديا ليصنعوا مستقبل هذا الوطن ويتغلبوا على الصعاب ويواجهوا التحديات.

فى نهاية جولتنا التي امتدت حتى الساعة الخامسة والنصف كان لنا الشرف بأن نترك فى هذا المشروع العملاق أثرًا لكل منا وهو مقترح اقترحه اللواء توفيق سامي توفيق، رئيس الشركة، أن يزرع كل منا نخلة، ضمن التوسعات الجديدة للمشروع.

فكان لي الشرف أن أقوم بزراعة نخلة من نوع «الخلاص» فى المشروع العملاق حرصت على أن أسجل إحداثياتها عبر خرائط جوجل ماب، وأحتفظ بها إذا ما توافرت لي زيارات أخرى للمشروع وهو ما أتمناه، وأتمنى أن يزوره كل مصري ويرى حجم العمل والإنجاز ويدرك أين ذهبت أموال المصريين.

ليس من سمعَ كمن رأى لذا أتمنى أن تقوم وزارة الشباب والرياضة بالتعاون مع الجامعات المصرية و القوات المسلحة بتنظيم رحلات لشباب الجامعات للمشروع ليدركوا حجم ما تحقق بالإرادة، فما أجمل أن تلتقط صورة لك تحتفظ بها بجوار إنجاز تحقق على أرض وطنك، يجب عليك أن تحافظ عليه.

عُدت من توشكى وأنا أحمل معي طاقة إيجابية من إرادة الأبطال وعظمة الإنجاز الذي تحقق على أرض الواقع، وفى طريق العودة حدّثت صديقي قائلاً، «إنهم يا صديقي يزرعون على سطح القمر» فقد حولوا المستحيل إلى واقع.

فتحية تقدير واعتزاز لكل يد عملت ولا تزال تعمل فى هذا المشروع العملاق من أجل الحفاظ على الأمن القومي المصري، وتحية لقواتنا المسلحة وإدارة الشئون المعنوية على تنظيم تلك الجولة.

أضف تعليق

إعلان آراك 2