على هامش الحرب الإسرائيلية الوحشية المُستمرة منذ أكثر من مائة يوم على قطاع غزة، تتبدى واحدة من المآسي الإنسانية، التي نجمت عن طرد إسرائيل كل الفلسطينيين، الذين كانوا يعملون داخلها بموجب تصاريح رسمية، لكن كان الأشد تأثرًا بهذا القرار هم عمال قطاع غزة، الذين تقطعت بهم السبل، فلا هم استطاعوا العودة إلى أهاليهم في القطاع، ولا استطاعوا البقاء في إسرائيل، وكانت الضفة الغربية الملاذ الوحيد الآمن لهم.
وفي حديثه مع مراسل وكالة أنباء الشرق الأوسط في الأراضي الفلسطينية، حكى عامل من قطاع غزة يعيش سرًا الآن في رام الله ولا يخرج منها إلى مدن الضفة الأخرى خوفًا من توقيف الاحتلال له واعتقاله، أنه كان يعمل في مطعم داخل إسرائيل، ومنذ طرده يعيش، مع زملاء آخرين له من أهل غزة في شقة سكنية برام الله.. ويعيش في هذه الشقة 12 فردًا في ظروف صعبة.
وأشار إلى أنه يضطر للعمل يوما أو يومين في الأسبوع في مقهى ليحصل بالكاد على مبلغ يكفيه لسد جوعه، وسداد الإيجار مع رفاقه الآخرين الذين يقاسمونه ذات الظروف من أهل غزة.
وفي حديث آخر مع مُسن، كان يمشي متوكئا على عصاه بصعوبة بالغة في أحد شوارع رام الله، واتضح فيما بعد أنه من أهل غزة، قال "أبو محمد" إنه جاء إلى رام الله بتحويل طبي برفقة ابنته الكبرى، لإجراء عملية جراحية في ركبته، وكان ذلك في أواخر شهر سبتمبر الماضي على أن يبقى في رام الله لمدة ثلاثة أسابيع، لكن وقوع الحرب حال دون عودته إلى قطاع غزة.
قال أبو محمد (67 عامًا) والدموع مُنهمرة على خديه، إنه فقد زوجته في القصف ب"خان يونس"، وقال إنه تمنى لو لم يأت للعلاج في رام الله، وأن بقى إلى جوارها واستشهدا معًا.
وعن الأوضاع السيئة التي يعشيها، قال أبو محمد إنه يعيش عند أشخاص يعرفهم وفروا له مكانًا للسكن، فيما تعيش ابنته في مكان آخر مُنفصل عنه، علمًا بأنها زوجة وأبناؤها يعيشون مع زوجها في قطاع غزة، ويعتصرها الألم كونها بعيدة عنهم، ويقتلها الخوف في كل لحظة تمر من أن يأتيها نبأ استشهادهم.
أما القصة الأكثر قسوة وألمًا التي صادفها مراسل وكالة أنباء الشرق الأوسط، فكانت لفلسطيني (50 عامًا)، والذي طلب عدم نشر اسمه ولو بالإشارة خوفًا من اعتقاله، بينما يعيش مُطاردًا في رام الله، إنه كان يعمل خياطًا في إسرائيل منذ عامين. وقال إن أسرته كانت مُكونة من أمه وزوجته وسبع بنات وولد. وكانت هذه هي أسرته قبل "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر، لكنها لم تعد كذلك.
قال وهو يُحاول كبح مشاعره والسيطرة عليها إنه استيقظ صباح السابع من أكتوبر وهو في إسرائيل وقد بدأت الأخبار تتوالى عن "طوفان الأقصى"، وتيقن وقتها أن حياته في خطر، وعلم أن العودة إلى القطاع "مُستحيلة" وقد يشك فيه الإسرائيليون بأنه مُشارك في الأحداث فقط لكونه فلسطينيًا، وبالتالي كانت الضفة الغربية هي المكان الآمن والملاذ الوحيد بالنسبة له.
وأضاف أنه توجه إلى الضفة الغربية وكان يتواصل مع أهله يوميًا بكلمتين فقط: "انتم عايشين"، وفي كل مرة كان يتصل بهم كان يضع يده على قلبه ويحبس أنفاسه خوفًا من أن يسمع خبرًا سيئًا، حتى جاء يوم الـ 31 من أكتوبر، وقام كالمعتاد بالاتصال بأهله ظهرًا واطمأن عليهم، قبل أن يتلقى اتصالا وقت العصر يبلغه بأن منزله تعرض للقصف، وأن زوجته وابنة له بخير، وعندما سأل عن أمه والباقين، أبلغوه بأنهم تحت الأنقاض. وفي اليوم التالي، علم باستشهاد خمسة من بناته، ثم في اليوم الثالث عرف أن أمه وابنه وابنة أخرى استشهدوا.. ثم أخرج هاتفه من جيبه، وعرضه لمراسل وكالة أنباء الشرق الأوسط في مقهى برام الله: "انظر.. كانت هذه هي آخر صورة التقطتها قبل مغادرة غزة وقبل يومين فقط من طوفان الأقصى.. أنا وزوجتي وابنتي ذات الـ 17 عامًا.. والمفارقة، أنهما فقط من تبقيتا من عائلتي على قيد الحياة.. وكأنهما يقولان لي.. نحن من سيبقيان معك".
وأضاف: "كل ما أنتظره الآن هو الحصول على خطاب عدم المُمانعة من السفر من الجانب الأردني.. لكي أسافر إلى زوجتي وأبنتي".
وقال: "لم يتبق لي سوى ابنتي ذات الـ 17 عاما وزوجتي.. كان يتم علاجهما في مُستشفى (الأقصى) وبعد 21 يومًا تم تحويلهما إلى الخارج في مصر، حيث تم إجراء جراحة لزوجتي، قبل تحويلهما إلى تونس لاستكمال رحلة العلاج... ولولا خروج ابنتي من قطاع غزة لتعرضت ساقها للبتر".
وقال: "أملى الآن هو أن يجمع الله شملي بهما فهما ما تبقيتا لي من عائلتي... أريد أن أعيش معهما في أي مكان آمن آخر"، بعد أن سوى الاحتلال العمارة السكنية التي كانت توجد بها شقتي الجديدة بالأرض"، مُشيرًا إلى أن هذه الشقة التي لم يعش فيها مع عائلته إلا أسابيع قليلة كلفته 82 ألف دولار، لكن تبقى خسارته لعائلته هي الخسارة التي لا تعوض بثمن، ولكنه راض بما قسمه الله له.
ومضى الرجل الفلسطيني يحكي كيف أن الجراح المصري وفريقه، الذي أجرى الجراحة الدقيقة لزوجته في الحوض بمُستشفى"بئر العبد" بشمال سيناء، يقومون بالاتصال به وبزوجته وبابنته يوميًا وهما في تونس للاطمئنان على صحتهم.
وتظهر البيانات اليومية للمؤسسات المعنية بشؤون الأسرى في الأراضي الفلسطينية، قيام قوات الاحتلال باعتقال المئات من أهل غزة، الذين وجدوا في الضفة الغربية ملاذا آمنا لهم من بطش الاحتلال الإسرائيلي داخل الخط الأخضر منذ السابع من أكتوبر الماضي.
وقال مسئول في قطاع الإعلام بنادي الأسير الفلسطيني، لوكالة أنباء الشرق الأوسط: إن سلطات الاحتلال الإسرائيلي ترفض الكشف عن أي أرقام تتعلق بمن جرى اعتقالهم من قطاع غزة في الضفة الغربية، أو مصيرهم في سجونها.
وترافق حملة الاعتقالات اليومية في الضفة الغربية، التي لا تقتصر على أهل غزة، حملات تنكيل واعتداءات بالضرب وتهديد أهالي المعتقلين.
وتجاوز عدد من جرى اعتقالهم في الضفة الغربية عمومًا منذ السابع من أكتوبر الماضي ستة آلاف مُعتقل، ويشمل هذا الرقم من جرى الإفراج عنهم لاحقًا (وذلك حسب بيانات مؤسسات الأسرى الفلسطينية).