كم يؤثرني رؤية مهند طالب الصف الثاني الثانوي، وهو يشد رحاله إلي معرض الكتاب بمجرد تفرغه من بلاء الامتحانات، واستنزافه في الدروس الخصوصية، فلم تحدثه نفسه عن استراحة محارب، فالعرس الثقافي أمامه عدة أيام، لكنها نخوة المعرفة، وكراهية التفاهة والجهل، ربنا يحرسك يا مهند، وتحية تقدير من قلبي لرفاقه الأبطال، فلم يتراقصوا في ساحات المعرض، ولم يتبادلوا النكات، إنما تسامروا وتحاكوا حول عناوين الإصدارات كالمغرم بحبيب طال غيابه.
وظاهرة عزوف كثير من الشباب عن القراءة بمثابة انتحار جماعي؛ لأنهم ببساطة يفقدون الهوية والانتماء، ويعيشون في حالة تيه، يعيشون كالهوام وحشرات الضوء، رضوا بالزحف والتسلق علي الأكتاف، وأينما يضعون لا يجلبون خيرًا، وناشد بعض علماء النفس المؤسسات المجتمعية بتقديم المزيد من الإغراءات للقراءة، بل دعوا إلي حتمية تفاعل الشباب مع الدين والأدب والشعر، لكي يتمكنوا من الشعور بالتوازن، والقراءة العلاج الأمثل لشباب هذا العصر للإحساس بالاستقرار وسط ظروف قاسية ومضطربة، يتشابك فيها الحابل بالنابل، وأقر علماء النفس بضرورة إيمان الشباب بالعقائد الدينية، وأن تكون شغوفة بالقراءة والاطلاع، لتحقق غرضها في اكتساب النفس الهادئة.
حين يعلم الإنسان أن ابتسامته لا معني لها وجاره يبكي، وأن تناوله لطعامه الصحي المشبع بالفيتامينات والعناصر المعدنية لن ينفعه وجاره يتضور جوعًا، إنه الوعي بمعني الإنسانية النبيلة، وما أروعها، والحشود في شوارع لندن ونيويورك تلعن سفاحي الصهيونية، إنها القراءة التي تربوا عليها، ويظهر معدنها في تهذيب النفس وتنقيتها من شوائبها، وتعطي للفكر إمكانية السباحة في الكون والتأمل في أحوال الناس، بعدما طهرت نفسه من الأنانية والغرور واللامبالاة.
وولع تلك الحشود الغربية بالقراءة ساقتهم لدراسة آيات القرآن الكريم للوقوف علي سر صمود أبطال غزة من الأطفال والشيوخ والنساء، وكان لابد من خطاب علماء الدين لإنسان العصر، حتي لا يصير شهوانيًا يفضل غذاء الجسد علي غذاء الروح، وغذاء النفس مصدرها رحيقها من قراءة آيات الله والسباحة في سمائها، وتجربة السلف الصالح تؤكد لنا أن المعية مع الله من خلال التفكر والتأمل في أسمائه وصفاته كانت وقودهم لتقدمهم علي الأمم.
وفي كتاب "الروح" لابن القيم يقول إن الله جعل كمال كل عضو في الجسد سلامته من أي خلل، وكمال القلب والنفس وسعادتها في معرفتها اليقينية بالله، والتوصل إلي محبته، والإقبال عليه، والإنابة إليه، وصدق الله العظيم في أول ما قال لرسولنا: "اقرأ باسم ربك الذي خلق".
وفي الختام، القراءة التطعيم المثالي للنفس البشرية من قذائف القلق وانكسار القلب كما ذكر المفكر الفرنسي "نزفيتان تودوق"، ووضح ذلك في كتابه "الأدب في خطر"، وقال إن طوق النجاة للإنسان من ضغوط النفس هي القراءة، وصرح بأنها الوسيلة الناجعة لإعادة تشكيل النفس.