رمضان شهر الصيام والمغفرة والتوبة والعبادات الخالصة لله.. وسبحان الذى أنزل على رسوله الأمين كتابا كريما لا ريب فيه هدى للمتقين.. وأعتقد أن الكثير من الناس لا تكتمل متعة الصيام لديهم إلا بالإكثار من قراءة القرآن.
فمرحبا رمضان.. ونسأل الله عز وجل أن يجزينا ثواب صيامنا وقيامنا ويرزقنا بركات و روحانيات هذا الشهر المبارك.
وإن شاء الله تعالى.. سنحاول خلال الأسابيع المقبلة وحتى نهاية الشهر المبارك التوقف عند بعض السور والآيات والحوارات القرآنية؛ لنتعرف على أسباب التسمية والأوامر والنواهى، وجمال الحوارات وبديع ألفاظها وقوة منطقها، عسى أن تطمئن وتهدأ قلوبنا، كما فى قوله تعالى (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، ونحن ندعو الله أن يتقبل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا ويهدينا إلى سواء السبيل.
نبدأ بالوقوف عند بعض آيات سورة البقرة، التى أوضحت بداية الخلق وحوار رب العزة مع مخلوقاته من الإنس والجن والملائكة، ثم بناء الكعبة المشرفة، والتعرف على أخبار الأمم السابقة، وأحكام الصوم والحج والعمرة والمعاملات وشئون الأسرة من زواج وطلاق.. إلخ.
وقد سميت البقرة - أطول سور القرآن 286 آية - إحياء لذكرى المعجزة المبهرة، التى كانت فى زمن كليم الله النبى موسى، حيث قُتلّ أحد الأشخاص من بنى إسرائيل ولم يتعرف القوم على قاتله، وكادت تحدث فتنة بين الناس لولا أن الحكماء منهم عرضوا الأمر على سيدنا موسى لعله يساعدهم فى الوصول إلى القاتل، فجاء أمر الله سبحانه وتعالى بذبح بقرة، وأن يضربوا جسد المتوفى ببعض لحمها، كذلك يُحيى الله الموتى بإذن الله، ويخبرهم عن القاتل، وتكون برهانا على قدرة الله جل جلاله فى إحياء الخلق بعد الموت (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
وتنبأنا السورة أيضًا ببداية الخلق، فبعد أن خلق الله السماء والأرض واستوى على العرش.. أراد أن يخلق البشر ليعمروها ويعبدوه ويسبحون بحمده.. فأخبر الملائكة أنه جاعل فى الأرض خليفة، فاندهشت الملائكة مما سمعوا، وتساءلوا عن السبب، خاصة أن المخلوق الجديد – وهو الإنسان – قد يفسد فى الأرض ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدسك، فأخبرهم رب العزة أنه يعلم ما لا يعلمون، فقد علم «آدم» الأسماء كلها، وطلب من الملائكة أن يخبروه بالأسماء إن كانوا صادقين فى اعتراضهم.
ولأن الملائكة مطيعين حامدين مسبحين.. كانت إجابتهم سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا.. ولا نعلم سوى ما علمتنا إياه، وهنا طلب الله سبحانه وتعالى من آدم أن يخبرهم بأسمائهم (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ).
ولكن يجب أن نوضح هنا – طبقا لبعض كتب التفسير – أن السجود دائما لله الخالق، ولكنه سبحانه وتعالى أمر الملائكة أن تظهر الاحترام للمخلوق الجديد بالانحناء والتعظيم، ففعلوا إلا إبليس رفض وادعى أنه أفضل منه، لأن الله خلقه من نار وخلق آدم من طين، بل إنه توعد آدم وذريته بالوسوسة الشيطانية.
وقصة آدم وحواء وإبليس معروفة، فوسوس لهم الشيطان بالأكل من الشجرة، التى حذرهما الله من الاقتراب منها، ولكنهما خالفا أمر الله ليكون لكل شىء سببًا، حيث أمرهم ربهم بالنزول إلى الأرض؛ لتعميرها وخلافة الله عليها، سبحانه وتعالى قد وعد بذلك من قبل (إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً).
ثم تخبرنا بعض آيات السورة الكريمة ببداية إقامة الكعبة المشرفة، حيث أمر الله أبا الأنبياء إبراهيم وابنه سيدنا إسماعيل أن يجعلها مثابة للناس وأمنا، ذلك بعد أن وعد الله نبيه بالإمامة واتخاذ مقامه مصلى (وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) «الآيات 125».
وعند الانتهاء من البناء والإعداد والتطهير، دعا إبراهيمُ ربهَّ بجعل المكان أمنا وأن يرزق أهله بالماء والغذاء (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
ثم تخبرنا الآيات بقواعد الحج والعمرة والطواف والهدى (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ).
ثم الآية (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، وقد سمى الله أوقات الحج بأنها أشهر معلومات، ونهانا فيها عن الرفث والفسوق، وأمرنا بالتقوى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فى الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فى الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ).
وتتضمن آيات السورة أيضًا أحكام الصيام وقواعده، وأنه أحد الفروض الخمسة، حيث كتبه الله على عباده ذوى القدرة على ذلك وإلا كان عليهم فدية عوضا عن صيام أيام أُخر عند القدرة وزوال الأسباب السابقة، مع التذكير بأن الصيام خير للجميع، والله أعلم بعباده ولا يحملهم ما لا طاقة لهم به، ومن ثم فمن زاد على الأيام المعدودات فى الشهر الكريم فهو خير له (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
وتضمنت الآيات أيضًا عددًا من النواهى، مثل أحكام الخمر والميسر (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)، وعدم الزواج من المشركات إلا إذا آمن، واجتناب التعامل وعدم الاقتراب من النساء فى فترة المحيض (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
ثم تشرح الآيات قواعد الزواج والطلاق وشهور العدة، وذلك احتراما وعملا بحدود الله، فأما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، مع إعطائهم حقوقهم كاملة.
وحرصا على كمال الأسرة والأبناء تكشف الآيات قواعد الرضاعة للمواليد، مع تطبيق القاعدة الفقهية المعروفة أنه لا ضرر ولا ضرار وأن تكلف كل نفس بوسعها، المهم استحضار الله فى القول والفعل.
نعم لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
ونختم بهذا الدعاء الذى نردده جميعا فى ختام صلاتنا وفى كل وقت، ونرجو من الله المغفرة والرحمة والعفو والعافية (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) الآية «286».