وفي سورة الكهف.. يخبر الله سبحانه وتعالي سيدنا محمد بأخبار الأمم السابقة وما حدث لبعضها، لكي لا يلوم نفسه، ولا يحزن علي القوم الظالمين الذين لم يستجيبوا لدعوته.
تضمنت السورة الجامعة ثلاث قصص رائعة، وثلاث أمثلة واقعية عن الدنيا وأحوالها.
أما القصص، فأولها من سميت السورة بهم، وهم أهل الكهف الذين استحقوا أن يصفهم الله بأنهم فتية أمنوا بربهم وزدناهم هدى.
والثانية، قصة النبي موسي عليه السلام والعبد الصالح، حيث التواضع والمشقة في طلب العلم، ومحاولة فهم ما يغيب عن العقل البشري المحدود.
والثالثة، قصة ذي القرنين، وهو أحد ملوك الأرض، مكنه الله من بناء سد عظيم.
أما الأمثلة الثلاث، فهي للغني صاحب الجنتين، والعبد الفقير المؤمن، وتقلبات الحياة علي البشر، إلا من رحم ربك، ثم التكبر والغرور وامتناع إبليس من السجود لآدم.
وتتلخص قصة أصحاب الكهف - كما ذكرت في أغلب السيرة – أنه بعد سيدنا عيسي، ظهر في بلاد الروم وتحديدا في قرية تدعي «طرطوس» ملك جبار سُمي «دقيانوس»، كان يدعو الناس إلي عبادة الأصنام وتقديم القربان لها، مع تهديد كل مؤمن لا يستجيب لدعوته وسلوكه الضال، وعمت الفتنة البلاد، وسمع بمجموعة الشباب المؤمنين، فاستدعاهم وحذرهم وأنذرهم وإلا سيكون مصيرهم كمن سبقهم ممن لم يستجيبوا لدعوته، ومنحهم مهلة مؤقتة حتي صباح اليوم الثاني، ولكنهم تمسكوا بعقيدتهم وقرروا الفرار بدينهم إلي الله، حيث هربوا إلي أحد الجبال ليلا، وأثناء سيرهم مروا علي راع معه كلب فتبعهم الأخير حتي استقروا في أحد الكهوف، وضرب الله علي قلوبهم وآذانهم فناموا نوما عميقا، وبعد مدة لا يعلموها.. استيقظوا واختلفوا حول مدة النوم، واعتقدوا أنها مجرد ساعات قليلة، وبعثوا بأحدهم ببعض النقود ليأتي لهم بطعام، مع التوصية بالحذر الشديد وأن يتلمس خطاه حتي لا ينكشف أمرهم.
ولكنه أظهر قطعة فضية تمثل إحدي العملات القديمة، وعندما أعطاها للبائع استفسر منه من أين أتي بها؟ معتقدا أنه وقع علي كنز كبير، وشرح له الأمر واصطحبه المحيطون به إلي الحاكم الجديد، وكان مؤمنًا نقيًا، فتوجهوا جميعا إلي الكهف ودخل عليهم زميلهم فأقاموا الصلاة، ثم ربت الله علي قلوبهم فاستغرقوا في نومًا أبديًا، فاختلف الناس بشأنهم وقررت الأغلبية بناء مسجدا عليهم.
وهذا الكهف موجود بالمملكة الأردنية الهاشمية الشقيقة، وهو مزار مفتوح للزيارة طوال العام.. ولحسن حظي أنني اقتربت منه كثيرا في إحدي زياراتي للأردن، ولكن ظروف الطقس وقتها منعتنا من استكمال الزيارة.
ونعود للقرآن الكريم وكيف صور وعرض قصتهم، وكان الله رحيما بهم وجعل كل ما في الكون مسخرًا لهم يعمل علي راحتهم، حتي ظلوا في شبابهم هذا ثلاثة مائة عام وتسع سنين.
ونبدأ مع قول الله سبحانه وتعالي في آياته الكريمة (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًي)، مع ملاحظة أن هؤلاء الفتية ليسوا أعجب آياتنا ولا أكثرهم إعجازًا، وإنما فتية أمنوا بربهم فزدناهم هدي، وخاصة بعد أن دعوا الله بأن يشملهم برحمته ويمنحهم الرشد والصواب في الرأي والتصرف.
وهؤلاء الفتية لم ينساقوا وراء الدعوة الضالة ولم يفعلوا مثل غيرهم، بل سألوهم عن أن يأتوا بدليل مقنع علي إشراكهم لله، وقد افتروا عليه بالكذب، ولذلك فقرروا اعتزالهم والبعد عنهم والتمسك بعبادة الله رب السموات والأرض، وقرروا الذهاب إلي الكهف حيث يترفق بهم الله ويرحمهم من تهديدات الملك ومن حوله من القوم الظالمين.
ونتوقف هنا عند مرقدهم ورحمة ربك بهم، حيث فناء الكهف متسع يدخله الهواء والشمس، ولكن الأخيرة عندما تطلع في الصباح تميل عنهم نحو اليمين، وعندما تغرب في المساء تميل ناحية الشمال حتي لا تأذيهم بشدة حرارتها في الحالتين.
ذلك.. والكلب المرافق لهم ممد رجليه وجسده في مدخل الكهف وكأنه حارس لهم من زوار الليل ووحوش الجبل.
والغريب في الأمر، أن من كان ينظر إليهم يعتقد أنهم مستيقظون، مع أنهم في نوم وسبات عميق، وذلك لأن قدرة الله جعلتهم يتقلبون علي جنوبهم كل فترة وحتي لا تأكل الأرض أجسادهم.
هذا «المشهد» لشباب بين اليقظة والنوم، ومعهم كلب باسط أرجله في المدخل.. جعله الله مصدر رعب وخوف لمن ينظر إليهم ويدفعه للهرب.. وذلك حماية لهم وأمنا.
مع أنهم عندما استيقظوا لم يجدوا اختلافا كثيرا في شكلهم.. بل إنهم تساءلوا فيما بينهم عن المدة التي قضوها نائمين، وأجزم بعضهم بأنهم ناموا يوم أو بعض يوم! ولكنهم لم يعلموا بما جري خارج الكهف من تغير في الحكم والبلاد والناس والعملة.. إلخ.
وهنا أيضًا نتوقف عند تعبيرين جميلين، الأول، (فَضَرَبْنَا عَلَي آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَي لِمَا لَبِثُوا أَمَداً) «الآية 12».
ثم يقول رب العزة في آية أخري (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَي أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) «الآية 21».
فبعد اكتشاف أمرهم وخلافهم حول المدة التي قضوها في الكهف ، وخلاف الناس حول عددهم إذا كانوا ثلاثة ورابعهم كلابهم أو خمسة وسادسهم كلبهم، يقول الحق سبحانه وتعالي (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ)، فيا أيها النبي لا تجاري القوم في هذا الجدل، ولا تستفهم في شيء، وإنما توكل علي الله ولا تعد بشيء إلا بأمره.
ونختم بتلك الآيات الكريمة والتي يحرص العديد منا علي ترديدها في مواقف مختلفة (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ).
وأيضًا (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً).
وأخيرًا: (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً).