من أسمى ألوان العشق الغوص فى أعماق أصولك الحضارية، فلا ترفع رأس بلا جسد، و الحضارة الإسلامية بناء شامخ أسسه سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، رسخ مبدأ التخصص، واستعان بخبرة سلمان الفارسى، وحرصت رسالته من قرآن وسُنّة على البحث والتدبر، وشرب رجالها الأفذاذ من ينابيع علمها وفقهها وأخلاقها، وبرغم بدائية إمكاناتهم البحثية أرسو مبادئ ونظريات نشأت عليها النهضة العلمية الحديثة.
وعبر البحث فى صفحات تاريخ عباقرة الحضارة الإسلامية تجد النفس عشقا فى الغور فى فكر عالم سبقت أبحاثه علماء وهيئات علمية حديثة، إنه محمد بن إبراهيم الفزارى أول من اجتهد فى قياس عمر الكون، علمًا بضعف أدواته المعرفية، وسبق كذلك وكالة الفضاء الأمريكية ناسا بدون مبالغة، لاسيما أنها تمتلك تكنولوجيا متطورة وفرقًا بحثية ضخمة، واستطاع تقدير أعمار النجوم والكواكب والمجرات.
وينسب إليه أنه أول عالم عربى يهتم بعلم الفلك بمنحى علمى ومنهجى، ولجأ من أجله إلى تعلم لغات أجنبية منها السنسكرية، وأجمع مؤرخو علم الفلك المعاصرين أنهم بنوا على تقديره لعمر الكون، وقدّروا عمر الكون بـ 13.8 مليار سنة، ويعادل ذلك افتراض الفزارى ثلاث مرات تقريبًا، وحسب رواية "ول ديورانت" مؤرخ الحضارات الأمريكى فى كتابه قصة الحضارة فإن الفزارى بدأ قياس الزمن من خلال دورات القمر قبل قياسه بالسنين.
ووضعه الخليفة العباسى أبو جعفر المنصور على رأس علماء الفلك فى الدولة العباسية، وقال عنه عالم الفلك اللبنانى منصور حنا جرادق فى كتابه "أصول علم الفلك الحديث" إن من العجب فى عبقرية الفزارى تعليمه لنا أن معظم النجوم التى نراها بالعين المجردة من على الأرض فى زمن يتراوح بين المائتين والثلاثمائة سنة نورية أى سنة ضوئية، وبعد مرور نصف قرن استكمل الخوارزمى أبحاث الفزارى وأضاف إليها.
وترك محمد بن إبراهيم الفزارى عدة مؤلفات الشهيرة "زيج على سنى العرب"، ويعنى برصد الجداول الفلكية طبقا لسنوات العرب أو التقويم العربى، وألف كتاب "المقياس للزوال"، وهو أول من صنع اسطرلاب مسطح لقياس حركة النجوم، ومن عشقه لعلم النجوم كتب قصيدة عنه، ومن أبياتها: فيه النجوم كلها عوامل..
منها مقيم دهره وزائل..
فطالع منها ومنها أفل
وينسب الباحثون للفزاري أنه حدد الوقت المناسب للبدء فى تشييد مدينة بغداد، حيث ترعرع فى بيت علم فقد تتلمذ على يد أبيه إبراهيم بن حبيب الفزاري، وكان واحدًا من كبار علماء تقويم الشهور والتنجيم، وانضم إلى فريق الترجمة فى بيت الحكمة لقدرته اللغوية الجيدة.