بسم الله.. والله أكبر.. والحمد لله الذى نسأله قبول صيامنا وقيامنا، وأن يغفر ذنوبنا ويكفر عنا سيئاتنا.
ومازلنا مع سورة الكهف وأخبار الأمم السابقة، ونتوقف عند قصة موسى و الخضر والذى وصفه الله بالعبد الصالح، وقد تضمنت القصة حوارًا رائعًا لفظًا ومعنى، بل ومن حيث الأخبار والأفعال وما حدث بشأنها، وكيف ظهرت إرادة الله وحتى تحققت. وتكشف كتب السيرة عن ملابسات القصة والحوار، بأن تصادف أن كان موسى يخطب فى قومه – بنى إسرائيل – فسأله أحدهم: من أعلم أهل الأرض، فسارع النبى بالإجابة بكلمة: أنا.. فعتب عليه ربه وأراد له أن يعرف أن فوق كل ذى علم عليم.. وأن يعلمه الحكمة والصبر ولا يأخذ بظواهر الأمور.
أوحى إليه أن يذهب إلى مكان معين، حيث يلتقى بالعبد الصالح، وهو ليس نبيًا ولا رسولا، وإنما بشر أكرمه الله بالحكمة والعلم وإظهار بعض الكرامات.
وهذه «المنحة الإلهية».. تكررت فى أكثر من سورة، ومنها مع سليمان فى النمل، عندما أحضر له من كان لديه علم من الكتاب عرش الملكة بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ).
وأيضًا مع السيدة مريم العذراء فى سورة آل عمران، عندما أمرها الله أن تهز جزع النخلة اليابس، فيتساقط عليها رطبًا طرية (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً).
وهذه الحالة الثالثة، حيث يقوم الخضر (العبد الصالح) بخرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار وهى أعمال - فى ظاهرها - يبدو بعضها خطأ جسيم، ويرقى بعضها الآخر إلى درجة الجريمة العمدية النكراء، بينما يمثل بعضها العمل الخيرى التطوعى.
وسبحان الله الذى جعل لكل شىء سببا، وما يعلم الخفايا والأسرار إلا الله سبحانه وتعالى.
وقد بدأت القصة بوحى من الله إلى سيدنا موسى أن يذهب إلى مجمع البحرين (مكان التقاء بحرى الروم والفرس) لملاقاة الخضر، وأن يحمل معه (سمكة مشوية) فى مقطف، وفى الوقت والمكان المحدد سوف يعيد إليها الله الحياة وتتسرب إلى البحر ويتجمد الماء حولها، لتكون «علامة» على مكان اللقاء.
فعندما طلب موسى الغداء بعد رحلة سفر طويلة، أخبره فتاه أنه نسى إخباره بأن «الحوت» تسرب إلى البحر بطريقة تثير العجب، وهذا بفعل الشيطان الرجيم، ولكنه لم يكن يعلم أن هذا ما كان ينتظره الكليم، حيث عادا أدراجها إلى المكان الذى اختفى فيه الحوت، حيث تم اللقاء (فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِي إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَباً (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً).
ولكن قبل أن نقرأ معا «الحوار الرائع بين موسى و الخضر ».. يجب أن نتوقف عند وصف الله لهذا العبد الصالح.. والذى أفاض الله عليه برحمته، وخصه ببعض العلوم والكرامات (فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) «الآية 65».
فعندما طلب منه موسى الصحبة ليتعلم منه بعض العلوم التى تكون مرشدا له فى حياته وتصرفاته، حذره الخضر بأنه لن يستطع الصبر على ما سيرى، وسوف يدفعه فضوله للسؤال الذى قد يصل لدرجة الاعتراض، وهذا أمر طبيعى.
ولكن النبى موسى الذى تواضع رغبة فى التعلم، وعد بالصبر والطاعة (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً).
فانطلقا.. وهو تعبير قرآنى جميل يدل على بداية الرحلة المشتركة ولكن ما أن ركبوا السفينة.. حتى قام الخضر بخرقها، فانزعج موسى.. ونسى الوعد وسأل عن السبب، واصفا الفعل «إمرًا» أى بالغرابة (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً).
فانطلقا - للمرة الثانية - وعندما قام الخضر بقتل غلام يبدو فى ظاهره الوجاهة والاستقامة، سارع موسى بالاعتراض مستنكرًا، ومحذرًا أنه قتل من غير سبب، وهذا شيئًا منكرًا، لا يقبله الشرع ولا العرف (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً).
فيذكره الخضر - مرة أخرى - بوعده بالصبر وعدم السؤال، فيعيد موسى التأكيد بالصبر والطاعة، بل ويحكم على نفسه أن فعل هذا مرة أخرى فمن حقه - العبد الصالح - ألا يصطحبه، فلم يعد له عذر بعد أن خالف العهد مرتين سابقتين.
فانطلقا للمرة الثالثة.. وعندما وصلا إلى إحدى القرى وجدا جدارًا يريد أن ينقض فأقامه.
أى وجد جدارًا مائل على وشك أن يسقط، ولكن الحكمة الإلهية منحت الجدار «الإرادة» وهى صفة للعقلاء وليس للجماد، أى أن الجدار يرغب فى السقوط لعدم سلامته، ولكنه ممتنع عن ذلك بسبب أقوى، وهو الحفاظ على كنز الأيتام، بسبب صلاح أبوهما، وقد قيل فى التراث أن صلاح الآباء ينفع الأبناء، وأن تقوى الأصول ينفع الفروع (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً).
ونعود لسياق الآيات لنجد أن سيدنا موسى لم يستطع الصبر ولا الوفاء بوعده بعدم السؤال للمرة الثالثة، وسارع بالعتاب بأن أهل القرية رفضوا إطعامهم واستضافتهم، فكيف يعيد بناء الجدار لهم، ألم يكن من الأفضل أن يحصل على أجر لذلك..؟!
هنا وصلت الرحلة إلى محطتها الأخيرة.. وكان الجواب الحاسم القاطع للخضر إلى موسى (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) وقد حكم موسى على نفسه بذلك من قبل.
وبعد أن هدأت الانفعالات وعادت إليهما الحكمة، بدأ الخضر تفسير أسباب أفعاله وملابسات ما جرى، فقد خرق السفينة حماية لأصحابها من أن يغتصبها الملك المستبد، وقتل الغلام لأنه كان كافرًا، وكان سيعذب أبويه المؤمنين، وأما الجدار فقد أعاد بناءه حفاظًا على «كنز» كان تحته ليتيمين صغيرين حتى يكبرا ويستخدما بأنفسهما، ذلك لأن أبوهما كان صالحا، وكل ذلك حدث ليس تطوعا أو عمدًا، وإنما بأمر من الله سبحانه وتعالى (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82).
ونعم بالله العزيز القدير.