وما زال الحديث موصولا بالجدل الدائر حول مسلسل «الحشاشين» الذي يعرض حاليا على شاشات الفضائيات وعلى منصات العرض الافتراضية، وهو جدل لن ينتهي في ظني لأسباب كثيرة؛ لعل من أهمها بل أبرزها التباس المفاهيم والخلط الفادح (بل الفاضح) بين التاريخ والأدب (ومن ثم الفن والإبداع عموما)،
1
فما زالت أبسط البديهيات حول العلاقة بين التاريخ والأدب (أو التاريخ والفن= التاريخ والدراما) غائبة عن أذهان ووعى فئة ليست قليلة من المثقفين والمشتغلين بالتاريخ والأكاديميين! فإذا كان ذلك كذلك فما ظنك بجمهور المشاهدين وعموم المتفرجين، وخصوصًا إذا كانوا من أصحاب المرجعيات الدينية المحافظة أو الاتجاهات التى تدين بالولاء لتيارات الإسلام السياسي، وهؤلاء هم أصحاب النصيب الأكبر من الصخب والضجيج، وهم الذين يثيرون الآن حملات التشهير والهجوم العنيف على المسلسل وصناعه، وبخاصة بعد أن عُرض ما يزيد على نصف الحلقات تقريبًا، وظهر فى المسلسل آليات التجنيد والعمل السرى والإيهام والتخطيط لهدم الدول واغتيال الشخصيات القيادية المؤثرة فى الدولة، ومن ثم العمل على إسقاطها والقضاء عليها!
هذا باختصار ما جرى -وما يجري- منذ الإعلان عن المسلسل قبل ما يزيد على العامين، وحتى وقتنا هذا! لكن من ناحية أخرى -وهذا فى تقديرى هو الأهم والأجدر بالتأمل والنظر والتحليل- فتح المسلسل الباب على مصراعيه للبحث والقراءة عن الموضـــــوع الــــذى استلهمه (جماعة أو طائفة «الحشاشين» فى التاريخ الإسلامي)، وعن تلك الشخصية الغريبة المريبة التى أسست هذا التنظيم المرعب وقادته على ما يزيد على الثلاثين عاما (الحسن الصباح)، وأشاع خلالها الرعب والإرهاب والترويع ليس فقط على مستوى حكام الدول الإسلامية (سنية كانت أو شيعية فى ذلك الوقت) بل أيضا فى أوساط عموم الناس من المسلمين البسطاء وغيرهم.
2
وحديثنا فى هذه الحلقة سيركز على طبيعة هذا التنظيم، وتكوينه، وكيف نجح طوال عقود فى إشاعة ما أشاعه من رعب وترويع وخوف، يكاد يكون هو المصدر الأساس -فى طرائق اغتيالاته الوحشية وإراقة الدماء والقسوة المرعبة فى تنفيذ عمليات الاغتيال- لكل جماعات الإرهاب و الإسلام السياسى التى مارست العمل السري، وكونت تنظيماتها السرية على غرار تنظيم «الحشاشين»، بل ومارست نفس الأساليب الترويعية الوحشية المجرمة فى التخلص من خصومها السياسيين والفكريين (ولعل فى واحدة من حلقات المسلسل ظهر كيف نشط عناصر هذا التنظيم فى القتل، وإشاعة الرعب فى إحدى المدن التى تراخت عنها يد السلطة المركزية «السلجوقية»، وكيف شكلوا تهديدا مباشرا ومخيفا لسكان هذه المدينة).
الحقيقة كأن المسلسل يصور -من ضمن ما صور- ما جرى فى مصر منذ 2013، وما بعدها، ومنذ ظهور داعش على مسرح الأحداث فى موصل العراق 2014 ثم ما شاهده الملايين بل المليارات من جرائم التنظيم الأم فى العراق وسوريا، والتنظيمات الفرعية والتابعة فى غيرها من البلدان، وشهدنا بأعيننا المواجهات المباشرة بين هذه التنظيمات المجرمة والجيوش النظامية، واستطاعت قواتنا المسلحة أن تتصدى لها وتقضى عليها.
هذا الجانب «السري» العنيف والمسلح، ركز عليه بعض الكتاب والمؤلفين الذين توقفوا أمام هذه المسألة، فنجد -مثلًا- المرحوم محمد عبد الله عنان يفرد لهم فصلا كاملا فى كتابه المهم «تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة»، وكذلك يفعل على أدهم فى كتابه «الجمعيات السرية» الذى صدر عن سلسلة «اقرأ» بدار المعارف.. وكثير من الكتب والفصول غيرهما.
لكن من بين عشرات الفصول التى عرضت لتاريخ الحشاشين وتكوينهم إلخ، نجد المرحوم أحمد أمين فى كتابه غير المشهور «المهدى والمهدوية»، يتحدث عن هذه الطائفة، وعن فكرة «المهدى المنتظر» فى تكوينها وتأسيسها، وتصوراتها الأيديولوجية؛ فيفيدنا أحمد أمين بأن طائفة الحشاشين من الفرق التى كانت مؤسسة على «التشيع» و»الباطنية» والاعتقاد بالمهدية.
ويوضح أنهم كانوا يسمون أحيانًا بالإسماعيلية «النزارية»، وأحيانًا بالديلمية، وزعيمهم بالطبع الحسن بن الصباح المشهور، وسموا بالحشاشين؛ لأنهم كانوا يتعاطون مخدر الحشيش، وقد شاع استعمال المكيفات لديهم، كما استعملوا القهوة للتنبه للعبادة كما يقولون، وكان الحشيش يخدم أغراض هؤلاء الإسماعيلية؛ لأنه يخدر أعصابهم ويزيد أحلامهم اللذيذة فيكونون أطوع فى تنفيذ الأوامر التى تصدر لهم،
وقد حكى الرحالة الشهير ماركو بولو -صاحب واحدة من أهم السرديات عن الحشاشين والحسن الصباح وقلعة الموت، والذى رحل إلى بلادهم بعد مائتى سنة تقريبًا- أنهم كانوا يستعملون الحشيش فى القلعة، فإذا خدروا خملوا إلى بقعة فى فناء القلعة، وكانت مملوءة بالغانيات الحسان ليتمتعوا باللذائذ فيها حتى يتمثلوا فى ذلك الجنة و«نعيمها»، فإذا أُمروا أمرًا نفذوه، فإن استطاعوا الهرب فيها، وإلا الجنة مأواهم.
وقد كان حصنهم الحصين قلعة «آلموت» الجبلية، ومعناها ملجأ العقبان (عش النسر) لحصانتها ووعورة مسلكها وارتفاعها الشاهق عن الأرض، قلعة على مسافة ستين فرسخًا إلى الشمال من قزوين، وقد يسمى أصحابها بالفدائيين (أو الفداويين)؛ لأنهم رتبوا أنفسهم على الفداء، وكانوا يعلمون الأطفال الاستهتار بالموت، ومن أغراضهم أن لا يبقوا على وجه الأرض أحدًا من خصومهم، وكان من تعاليمهم -على ما يروى خصومهم- عدم التمسك بالشرائع والإباحية، كما سجلته نصوص عديدة، ومنها أبيات فى الشعر لواحد من دعاة الباطنية يُدْعى «على بن فضل» ادَّعى النبوة وأباح جميع المحرمات.
وعلى الجملة فقد اشترطوا فى «داعيهم» أن يكون عارفًا بالوجوه التى تدعى بها الأصناف، ثم يدعى كل صنف بما يناسبه، فمن رآه الداعى مائلًا إلى العبادة حمله على الزهد والعبادة، ومن رآه ذا مجون وخلاعة قال له: العبادة بله وحماقة على مثل ذلك.
وزعيمهم الحسن بن الصباح هذا يروى بعض الرواة أنه كان صديقًا لعمر الخيام ونظام الملك، وقد أخذ تشيعه عن مصر حين رحل إليها، واعتنق المذهب الفاطمى وخصوصًا الفرع «النزاري» ثم رحل إلى فارس، وقد وضع لأتباعه خطة لاغتيال العظماء البارزين من السنيين حتى يخلو الجو للتشيع، وقد مهد لذلك بالتشنيع على الخلفاء والحكام السنيين، وكبر مظالمهم.. إلخ.
وهنا يورد أحمد أمين تحدث الحسن الصباح بقرب ظهور «المهدي» الذى يملأ الأرض عدلًا، وقد استولى بقوة جيشه على بعض الأماكن بسوريا، وكان يعلم أيضًا تعاليم إباحية تعدو إلى رفع التكاليف عمن تقدم فى المذهب اجتذابًا لقلوب العامة، وقد أرهب الملوك والعظماء فى البلاد لكثرة ما كانوا يغتالون، وكان أول من اغتالوه «نظام الملك» الوزير السلجوقى المشهور.
ويبدى أحمد أمين حماسا بالغا فى الدفاع عن الوزير نظام الملك وأعماله، فيقول «والواقع أنهم لم يكونوا موفقين فى قتله؛ لأنه من أحسن الرجال عدلًا وعطفًا على العلماء وتشجيعًا للعلم، وهو الذى أنشأ المدرسة النظامية فى نيسابور والمدرسة النظامية فى بغداد، وهى التى درس فيها الجوينى والغزالى والكيا الهراسى وأمثالهم، واعتنق المذهب الأشعرى وساعد على نشره، وهذا الوزير وضع رسالة بالفارسية فى نظام الملك تحتوى على آراء كثيرة صائبة مثل تحذيره السلطان من تدخل أصدقائه غير المسئولين فى شئون الدولة، ومن تدخل بعض رجال البلاط للنظر فى الدعاوى وإصدار الأحكام، واستغلال سلطتهم فى ابتزاز أموال الرعية، وأخيرًا حذر نظام الملك السلطان السلجوقى من الحشاشين، ونصحه بقتالهم قبل أن يستفحل أمرهم، ولكنهم تمكنوا من قتل نظام الملك قبل أن يقتلهم، فقد كان قد خرج إلى رحلة فاعترضه شاب من هؤلاء الفدائيين متزييًا بزى الصوفى، وتظاهر بأنه يريد إحسانًا ومد يده إليه، فمد نظام الملك إليه يده، فانتهز هذا الشاب هذه الفرصة وطعنه بخنجر مات منه».
3
ولقب «داعى الدعاة» هو اللقب الذى يطلقه على نفسه أمير قلعة آلموت أو شيخ الجبل «الحسن الصباح»، ومن تحته «الدعاة» الفرعيون، يكون كل واحد منهم مسؤولا عن عناصره (إذا ترجمنا هذا التكوين إلى اللغة المعاصرة فنقول إن كل خلية تتكون من مجموعة من الفداوية يأتمرون بإمرة الداعية)، وكان إذا انتدب أحد أتباعه لعمل فدائي، قال له: «قم إلى فلان فاقتله ومتى رجعت تحملك ملائكتى إلى جنة النعيم، وإذا مت من دون ذلك أرسل ملائكتى إليك يذهبون بك إلى جنة الخلد».
وقد روعت هذه الحادثة نفوس العظماء، وخوفتهم منه، وقد أراد هؤلاء الحشاشون مرة أن يقتلوا صلاح الدين الأيوبي؛ لأنه كبير من كبراء السنية؛ ولأنه قضى على الدولة الفاطمية فى مصر، وذلك أن قائد حلب أغرى هؤلاء الحشاشين بقتل صلاح الدين حين حاصرها لأول مرة، وكان هذا الزعيم يسمى «رشيد الدين» ويعرف بشيخ الجيل، ولكن صلاح الدين نجا من هذا الفدائى بأعجوبة.
وظلت هذه الفئة تروع البلاد بقتل العظماء، وتصل إلى ذلك بمؤامراتٍ سرية دقيقة، وتنظم شئونها فى دقة وإحكام شديد، حتى علا شأنها وكثر تخريبها، أما نهايتهم كما تذكر المصادر التاريخية فكانت على يد هولاكو المغولي، الذى استولى على قلعة آلموت فى سنة 1256م، ثم جاء السلطان الظاهر بيبرس البندقدارى فقضى عليهم القضاء الأخير سنة 1272م،
ومنذ ذلك الحين «تفرق شملهم فى سوريا وفارس وعمان وزنجبار والهند وكفى الله المؤمنين شرهم». ولأن تعاليمهم كانت سرية وكافة أمورهم وتفاصيلهم كانت كذلك، فقد محيت كل آثارهم ولم يبق لنا منها ما نستنتج منه تعاليمهم الصحيحة، ولكنهم على كل حال -كما يقول أحمد أمين- كانوا يدينون بعقيدة «المهدي» وبالتشيع «الباطني»، وينظمون أنفسهم تنظيمًا شيعيًّا، ويستقون من نبع التعاليم الفاطمية،
وقد أطلق الفرنج (الصليبيون) هذه الكلمة (كلمة حشاشين Assasins) على المغتالين أخذًا من اسم هذه الفئة.
4
فيما يرى عباس محمود العقاد فى كتابه المهم (وإن لم يكن بذات الشهرة التى لغيره من كتبه) «فاطمة الزهراء والفاطميون» أن الحسن بن الصباح عرف سر «الحشيش» من أستاذه الطبيب ابن عطاش فسخره فى نشر دعوته، وأنه توسل به لإقناع أتباعه برؤية الجنة عيانًا؛ لأنه كان يدير عليهم «دواخين الحشيش» ثم يدخلهم إلى حديقة عمرت بمجالس الطرب التى يتغنى فيها القيان، وتتلاعب فيها الراقصات، ثم يخرجهم منها وهم فى غيبوبة الخدر، ويوقع فى وهمهم ساعة يستيقظون أنه قد نقلهم إلى جنة الفردوس، وأنه قادر على مرجعهم إليها حين يشاء، وأنهم إذا ماتوا فى طاعته ذاهبون بشهادة أعينهم إلى السماء.
قالوا: وإن هذا الإقناع أو هذا «الإيمان العياني» يفسر طاعة أتباعه الذين كان يأمرهم بالهجوم على أعوانه من الوزراء والأمراء بين حاشيتهم وأجنادهم، فيهجمون عليهم ويغتالونهم غير وجلين ولا نادمين، وإن كلمة «أساسين» Assasin التى أطلقت فى الغرب على قتلة الملوك والعظماء ترجع إلى كلمة «الحشاشين» أو «الحسنيين» نسبة إلى الحسن بن الصباح،
وقالوا: إن الفتى من أتباع شيخ الجبل كان يبلغ من طاعته لمولاه أن يشير إليه الشيخ بإلقاء نفسه من حالقٍ فيلقى بنفسه ولا يتردد، وإن أحدهم كان يقيم بين جند الأمير المقصود بالنقمة، ويتكلم لغتهم حتى لا يميزوه منهم، وأنه يفعل فعلته، ويتعمد أن يفعلها جهرة ولا يجتهد فى الهرب من مكانها، وإن أمهات هؤلاء الفدائيين كن يزغردن إذا سمعن خبر الفداء، ويبكين إذا عاد الأبناء إليهن ولم يفلحوا فى اغتيال أولئك الأعداء. ثم يعقب العقاد على كل ذلك بقوله:
«وظل الحديث بهذا وأشباهه يتعاقب ويتناثر بين الأمم، ويروى عن الحسن كما يروى عن خلفائه إلى عهد الرحالة البرتغالى «ماركوبولو» الذى ساح فى المشرق فى أوائل القرن الثالث عشر للميلاد، ولا يزال هذا التفسير الخرافى مقبولًا فى القرن العشرين بين الأكثرين من المؤرخين والقراء..».