يأتي الاحتفال باليوم العالمي للصحة والذي يوافق السابع من أبريل، هذا العام وسط حالة من الدمار الشامل، غير المسبوقة في الوضع الصحي في قطاع غزة ، فبجانب الإنعدام شبه التام في الغذاء والأدوية بالقطاع؛ والذي أدى إلى انتشار المجاعة والأمراض والأوبئة بين المواطنين، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي الغاشم لم يكتفي وجعل من المستشفيات «ساحات للقتال» وكانت البداية عندما شنت طائرات الاحتلال غارة جوية في السابع عشر من أكتوبر، على مستشفى الأهلي العربي «المعمداني» بحي الزيتون شمال غزة، أثناء تواجد آلاف النازحين الذين لجأوا إليه، بعدما نسف الاحتلال منازلهم، معتقدين أن النزوح في المستشفيات أكثر أمانًا؛ مما أسفر عن استشهاد وإصابة المئات، معظهم من الأطفال والنساء.
وواصلت آلة الحرب الإسرائيلية الطائشة عملياتها ضد القطاع الطبي في كامل غزة، حتى أخرجت 32 مستشفى عن الخدمة بشكلٍ كامل، من أصل 35 مستشفى، والتي كانت آخر هذه العمليات هي اقتحام «مجمع الشفاء الطبي»، لمدة 14 يومًا، المكتظ بالجرحى والنازحين، وانسحب الاحتلال منه بعدما دمره تدميرًا كاملًا، بالإضافة إلى قتل وتعذيب مائات الجرحى والنازحين، لينضم مستشفى الشفاء إلى «قائمة اغتيالات مستشفيات غزة ».
«بوابة دار المعارف» في هذه السطور حرصت على أن تنقل معاناة الأطباء والممرضين في قطاع غزة، وصمودهم أمام آلة القتل الإسرائيلية، وحالة الحرب الممنهجة ضد المنظومة الصحية، وآخر المستجدات في هذا الشأن.
في البداية، يقول الدكتور مروان الهمص، مدير مستشفى أبو يوسف النجار، بمدينة رفح الفلسطينية: خروج 32 مستشفى عن الخدمة بشكلٍ كامل، من أصل 35 مستشفى في قطاع غزة، هي خطة ممنهجة شنها الاحتلال الإسرائيلي ضد المنظومة الصحية في قطاع غزة، وبدأت بقصف مجموعة من المستشفيات كالمعمداني والقدس، وصولًا بالاجتياح الأول لـ«مجمع الشفاء الطبي»، ومن ثم الاحتياج الثاني للشفاء؛ والذي تدمر فيه المجمع تدميرًا كاملًا، من تخريب وإحراق وهدم كامل للمباني التابعة للمستشفى، وبخروج مستشفى الشفاء عن الخدمة يعادل خروج ثلث المنظومة الصحية عن الخدمة؛ لأن مستشفى الشفاء وحده يعادل ثلث المنظومة الصحية في قطاع غزة، و«خروج الشفاء عن الخدمة يعني خروج المنظومة الصحية في قطاع غزة»؛ مما يعني عدم تلقي الناس أي خدمات طبية، أو علاجية أو خدمة العمليات، وحتى خدمة الطوارئ التي تنقذ أي إصابات من أي استهدافات، فلن تجد أي خدمة طبية، في مدينة غزة بأكملها، فيضطر المواطنين إلى التوجه لمستشفى كمال عدوان وهو مستشفى صغير لا يرقى لخدمة كل سكاني شمال قطاع غزة الذين يقربوا من 700 ألف نسمة.
خطة ممنهجة
وأضاف: كل ما حدث في المنظومة الصحية ماهو إلا خطة ممنهجة تعمد الاحتلال تنفيذها ضد هذه المنظومة، حتى تصاب بشللٍ تام وتخرج عن الخدمة؛ للضغط على سكان قطاع غزة، لإخلاء المناطق؛ لأن عندنا تنقطع الخدمات الصحية والعلاجية يصعب على المواطنين البقاء والتواجد في أماكن سكناهم، والثبات على الأرض، فالمستوى الذي وصل إليه القطاع الصحي الآن لا يمكن وصفه، فكل يوم يسوء ويتدهور الوضع عن اليوم السابق، حيث «تخرج يوميًا مستشفيات عن الخدمة»، فالأمس القريب خرج مجمع ناصر عن الخدمة بشكلٍ كامل، وهو ثاني أكبر مجمع طبي بعد مجمع الشفاء، ويعادل ربع المنظومة الصحية في قطاع غزة، وأصبحت مدينة خانيونس وقطاع غزة الآن بلا خدمات صحية، وانهيار المنظومة الصحية يفاقم الأزمة بشكل كبير، كل لحظة هناك مائات الجرحى والمصابين الذين يحتاجون إلى العلاج، وخروج الطواقم الطبية والتمريضية حيث نزوحوا جميعا وموظفو هذا المجمع إلى خانيونس ورفح ويصعب التواصل معهم وخروجهم من أماكنهم، للعمل في المستشفيات المتبقية.
وتابع: ما تبقى من إجمالي المستشفيات الآن مستشفى صغير وهو مستشفى الشهيد محمد يوسف النجار، ويحتوي على 63 سرير والآن، وبها ما يزيد على 250 مريض ولا نجد متسعًا لاحتواء كل هذه المرضى، في داخل استقبال وطوارئ هذا المستشفى، وكذلك الوضع في غرف المبيت، فالوضع سئ جدًا، لا يوجد أدوية ولا علاجات طبية لا يوجد ما يخدم المليون ونصف نازح المتواجدين بمدينة رفح الفلسطينية، ولا يوجد رنين مغناطيسي ولا أي شئ، نفتقد إلى خدمة العناية المركزة، فـ«كل مدينة رفح لا يوجد بها قسم للعناية المركزة»، مما يضطرنا إلى تحويل المرضى إلى مستشفى غزة الأوروبي الذي خرج عن الخدمة أيضا، ولكن خروج هذا المستشفى ليس سببه اجتياح الاحتلال الإسرائيلي له؛ ولكن بسبب زيادة عدد المرضى والجرحى المتوافدون داخله، وكذلك بسبب النازحين المتواجدين به الذي يقيمون به ويستخدمون الممرات والطرقات وكافة المساحات لدي المستشفى، حتى أصبح الناس ينامون داخل الأقسام ولم يستطيعوا الخروج خوفًا من القصف، ولكن الاحتلال الإسرائيلي لا يعطي ولا يحترم أي حُرمة وإن كانت في المستشفيات أو المساجد والكنائس، فهو يستهدف الجميع، والآن أصبح هناك العديد من الإمراض والأوبئة المنتشرة بشكلٍ كبير بين الناس أولها انتشار مرض الكبد الوبائي بين الأطفال؛ ويرجع سبب انتشاره إلى حالة سوء التغذية التي يعاني منها كافة سكان قطاع غزة الآن، والمياة غير النقية، ولا يوجد أي شئ يمكن الاعتماد عليه كالجلوكوز أو بعض الأغذية اللي تحتوي على السكر وحتى العسل لم يتم توفيره ونسب دعمه من قبل الدول قليل جدا، والازدحام أيضًا أدى إلى تفشي الأمراض المعدية كالأمراض الجلدية التي تنشأ بسبب قلة استخدام المنظفات.
لم نستطيع التقاط الأنفاس
واستكمل: كذلك انتشار الأمراض الصدرية كالربو داخل أماكن النزوح فالخيمة لا تقي من البرد ولا حرارة الشمس، كذلك انتشار التسمم الغذائي بسبب سوء التغذية؛ نظرًا لاعتماد كافة النازحين على المعلبات التي يتم التبرع بها من قبل بعض الدول العربية، وكذلك انتشار الأمراض المزمنة والفشل الكلوي والكانسر، فلا يتواجد «أي رصيد للعلاجات سواء أدوية علاجية أو حتى مُسكنة»، وكذلك لا يتوفر أدوية الضغط والسكر، وأعداد المرضى أكبر من الطاقة الآن، كما أن خروج مستشفى ناصر عن الخدمة فاقم الأزمة، وهو كان به مركز غسيل كلوي يتسع لمائة مريض الآن لا يوجد متسع، فيوميًا لدينا حالات وفاة من أصحاب الأمراض المزمنة والأورام، إضافة الي فقدانا لكافة المستلزمات الطبية داخل المستشفيات وزيادة في عدد قوائم الانتظار والعمليات المجدولة وعمليات اليوم الواحد، هذه كلها تزيد الحمل والطاقة، أما بالنسبة للطواقم الطبية، فالحرب مستمرة منذ 184 يومًا، العمل منقسم إلى شفتات 24 ساعة عمل ثم 24 ساعة راحة، لا يكاد الطبيب والممرض والعامل في وزارة الصحة الفلسطينية يلتقط أنفاسه حتى يعود موعد العمل من جديد، والمرضى والجرحى بأعداد مهولة والحمل كبير جدا، والاحتلال يستهدف استهدافات كثيرة وأعداد المرضى والشهداء لا يُعد ولا يُحصى؛ مما يزيد العبء على كاهل العاملين في وزارة الصحة الفلسطينية.
واختتم «الهمص» حديثه، قائلًا: نطالب كل أخواننا العرب والمسلمين أن يفتحوا لنا أبواب المعابر؛ لإدخال كل ما يحتاجه قطاع غزة من مساعدات انسانية إغاثية، وكذلك طبية وإدخال وفود طبية؛ لتساعدنا في عمل العمليات العالقة والتي لا يتواجد اخصائيون لعملها، نفتقد لأخصائيين جراحة الأعصاب والأوعية الدموية والتجميل والعظام، فـ«كل الأطباء انهارت قواهم»؛ بسبب تزايد أعداد المصابين، كذلك نحتاج إلى فتح معبر رفح؛ لخروج الحالات التي تحتاج للعلاج في الخارج، ولابد من سفر كل الحالات التي لم يعد لها علاج في قطاع غزة، وكل الشكر لجمهورية مصر العربية التي استقبلت كل الحالات وكل من خرج قطاع غزة لمصر، وإن كانت وجهتهم لدولة أخرى لكن مصر كانت السبيل للوصول إلى الدول الأخرى، الشكر موصول للأطباء والممرضين المصريين والشعب المصري، على ما قدمه من مساندة للشعب الفلسطيني.
ومن جانبه، يقول الدكتور محمد حرب استشاري التغذية والصحة العامة في غزة: المنظومة الصحية في قطاع غزة تشهد كارثة إنسانية بالمعنى الكامل للكلمة، فخروج 32 مستشفى عن الخدمة بشكلٍ كامل من أصل 35 مستشفى، في ظل وجود أكثر من 2 مليون فلسطيني ما زالوا متواجدين في قطاع غزة، كارثة ومأساة مريرة، ففي الحروب والتصعيدات السابقة كانت تعمل كافة هذه المستشفيات بكامل قواها وبكافة الإمكانيات، ولم تكن قادرة على مواجهة العدد الكبير من الإصابات والجرحى، واستقبال العدد الكبير في أقسام الطوارئ والاستقبال والعناية المركزة، والآن بعد خروج أكثر من 95% من المستشفيات وخصوصًا المستشفيات الكبيرة كـ«مجمع الشفاء الطبي الذي تدمر»، فتشهد المنظومة الصحية كارثة إنسانية كبيرة؛ قد تؤدي بحياة الآلاف بل عشرات الآلاف إلى الموت في أي لحظة، الوضع الصحي في قطاع غزة خطيرًا وصعبًا جدًا ويجب التوقف والانتباه له بشكلٍ كامل، من كافة المنظمات العربية والدولية.
دمار يفوق الخيال
وتابع: الكارثة التي يشهدها القطاع الصحي في غزة، لا يمكن وصفها، و«الدمار يفوق الخيال»، مع خروج هذا العدد الكبير من المستشفيات، فلا يوجد خدمة تقدم للمرضى والمصابين الآن وحتى وإن كانت بنسبة 10%، وكل هذا الدمار جاء عن تعمد الاحتلال الإسرائيلي، فمنذ اللحظة الأولى في الحرب توجه إلى قصف المنشآت الطبية واستهداف كافة الطواقم الطبية، فالوضع كارثي، فكافة الطواقم الطبية تعاني من مأساة كبيرة وحقيقية، وشعور الاستهداف في كل لحظة يحاوط جميع العاملين في المنظومة الصحية، وعمليات الاستهداف متسلسلة سواء أثناء عملنا داخلنا المنشآت الطبية، أو أثناء الذهاب أو العودة من العمل.
وبالنسبة لآخر المستجدات في المنظومة الصحية بقطاع غزة، قال: لا يوجد أي تطورات في القطاع الصحي الآن سوى الدمار، وخروج المستشفيات عن الخدمة؛ والذي أدى إلى موت عدد كبير من المرضى، خصوصًا مرضى الغسيل الكلوي والسرطانات، أيضًا وفاة الأطفال في أقسام الحضانات، حيث قضى استهداف المستشفيات على أكثر من 80% من الأطفال في قسم الحضانة، فالوضع كارثي، ونسأل اللّٰه أن ينتهي هذا العدوان بأقرب وقت وتعود بلدنا أمنة لا تصاب بأي مكروه.
معاناة مريرة
أما لينا محمد أبو عكر الحاصلة على ماجستير عناية حثيثة في التمريض، والتي كانت تعمل في قسم التمريض بجامعة الأقصى، ثم متطوعة في مجمع ناصر الطبي؛ بسبب الحرب، قالت: منذ أن تطوعت في مجمع ناصر في اليوم الأول للحرب، شهدت معاناة مريرة بمعنى الكلمة، حيث كنا نعاني من نقص الأدوية بشكلٍ كامل، ونقص المستلزمات الطبية، وكنا نعمل بأقل الإمكانيات، على الرغم من الأعداد الكبيرة المصابة، ونداوي أغلب الحالات في خانيونس الشرقية والغربية، وكذلك كان الحال في مجمع الشفاء الطبي والإندونيسي وكمال عدوان، حيث كان يتم استقبال عشرات من الإصابات الشديدة، دون توافر أدوات طبية كافية لعلاج هذه الحالات، التي كانت معظمها من الأطفال والنساء.
وأضافت: أغلب حالات الإصابات بالنسبة للرجال والشباب كانت حالات بتر للأطراف؛ وبسبب عدم توافر أدوات طبية وعلاجية، كانت حالات البتر تصاب بالعفن، فالوضع كارثي ولا يمكن وصفه وما رأيته لا يمكن الشفاء منه، فكل الطواقم الطبية كانت تعمل وتبكي على المرضى والمصابين معًا، فما حدث في قطاع غزة هو انتهاك تام لكل الحقوق والضمائر الإنسانية، فأنا شخصيًا فقدت أكثر من 28 شهيدًا من عائلتي، فالحرب وويلاتها مريرة، كل الأيام واللحظات صعبة، والمواقف جميعها محزنة، ومن أصعب المواقف التي مريت بها هي عندما قصفوا مربع سكني كامل في حارتنا، وهو مربع أبو شمالة، وبنت أخي ومعظم أطفال الحارة كانوا من ضمن المصابين في هذا القصف؛ الذي أدى إلى استشهاد أكثر من 70 فردًا جميعهم جيراننا.
وتابعت: من أصعب المواقف التي مريت بها أيضًا هي قصف بيت عمي، الأمر الذي أدى إلى تضرر بيتنا لأننا في نفس المربع السكني، و«تم أنقذانا من تحت الأنقاض بأعجوبة»، وبعدها تلقيت خبر استشهاد خالي، فلم نستطيع التقاط أنفاسنا من فاجعة استشهاد قريب أو جار، حتى تأتينا صدمة استشهاد عزيز أخر، فكل أعين سكان قطاع غزة لم تجف من الدموع منذ اليوم الأول في الحرب، الجميع يمر بأيام صعبة.
فقدان مقومات الحياة
واستكملت «لينا»: ما شهدنا لا يمكن وصفه، ومن أكثر المشاهد العالقة في ذهني هي عندما حاصرت قوات الاحتلال الإسرائيلي مجمع ناصر الطبي، فكانت المُسيرات تستهدف كامل محيط المستشفى، وأُصيب زملائي وهم على رأس عملهم بقسم العمليات والعظام، كما تم اعتقال عددٍ كبير من زملائي، والإعتداء عليهم بأبشع الطرق، وتم قطع المياه والغداء عن المستشفى، ثم حاصر الاحتلال المستشفى، مما اضطرت الطواقم الطبية إلى «شرب المحاليل للحصول على طاقة لتقديم الخدمة العلاجية للجرحى».
وأضافت: حتى أجهزة العناية المركزة والغسيل الكلوى لم تسلم من جنون آلة الحرب الإسرائيلية الطائشة، فتم تدميرها بالكامل وكذلك تدمير المباني، ف الاحتلال الإسرائيلي تعمد تدمير المنظومة الصحية في كامل قطاع غزة، وارتكب كافة أعمال التخريب والتكسير وإحراق المستشفيات؛ حتى تخرج عن الخدمة، بجانب قتل واعتقال الطواقم الطبية والمرضى والمرافقين، والاعتداء عليهم، وإجبارهم على خلع ملابسهم، وقاموا بضرب النساء واغتصابهم والاعتداء عليهم وتعذيبهم بأبشع الطرق، وهذه الجرائم لم تُرتكب في مجمع ناصر الطبي فقط، بل في كل مكان.
مشاهد مرعبة
واختتمت «لينا» حديثها، قائلة: المشاهد وأعداد الجرحى مرعبة لا يمكن تصورها، ومع ذلك لم يكن همنا أن نموت؛ لأننا سنكون شهداء ولكن طوال الوقت كل ما يشغل تفكيرنا هو أن «نموت مجهولين»، ونصبح مجرد رقم يُعد من ضمن الأعداد وما يتم التعرف علينا؛ لذلك كنا نخشى أن ننام، وإذا غلبنا النوم كنا نرتدي حجاب الصلاة، ونكتب أسامينا على أيدينا؛ حتى يتم التعرف علينا في حال استشهادنا، مع الأسف كانت لنا حياة وطموح وأحلام نتمنى تحقيقها ذات يوم، فجأة انقلبت حياتنا رأسًا على عقب، وفقدنا كل شئ وتبدلت البيوت بالخيم، وأصبحت طموحاتنا وأحلامنا أن لا نموت دون أن يتم التعرف علينا، فما حدث لنا لا يمكن الشفاء منه.