حضارة لم تعرف الهزل، وتمسكت بالجد في كل شئونها، مما كان له الفضل في إبهارها للعالم، فلم تخلط الأوراق، ووضعت ما يجب أن يكون في المقدمة، ولم تجعله في ذيل خطتها، وحرصت ألا تصير نهايتها مثل حضارات أخري، رفعت صغائر الأمور علي قمة أولوياتها، ومن عوامل بقاء الحضارة الإسلامية علي القمة فترة طويلة، أنه بات طابع المبارزة بين فتيانها ينصب حول الأمور المعرفية، وأصبح تسابقهم يعتني باستنتاج الحلول للمسائل الفقهية والعلمية.
وأبي شباب الحضارة الإسلامية النقل من الحضارات الأخري سوي ما يعظم شأنهم وشأن حضارتهم، وعضّوا علي هويتهم العربية والإسلامية بالنواجذ، ولم يخلطوا الحبل بالنابل، ولم يتركوها في مهب الريح، وتميزوا بالعبقرية والفروسية والحكمة، وقد سجلها التاريخ عبر صفحاته.
ويتعجب أهل الحضارات الصاعدة من صمود الحضارة الإسلامية علي القمة واستمرار عنفوان شبابها علي مدار عدة قرون، وعندما بدأ أجيالها الجدد يغوصون في سفاسف الأمور، زحفت إليها علامات الشيخوخة.
ومن دلائل فخرها إبداع بعض قادتها وأمرائها في الاختراع والتأليف، وتوضح سجلات التاريخ أن أبا جعفر المنصور كان شغوفا باقتناء الكتب العلمية وتفحصها، واشتهر بجمع التراجم، ومن أجلها كلف علماء بالتحقق من التراجم وجمعها ونقلها إلي العربية.
ويٌسند إلي أبي جعفر المنصور أنه أول من أمر بترجمة كثير من الكتب السريانية والأعجمية مثل كتاب كليلة ودمنة، وذكر ذلك الذهبي في كتابه "تاريخ الإسلام"، وعندما تقلد هارون الرشيد الحكم من بعده، أسس المشروع العلمي الكبير بيت الحكمة، ويعتبره الخبراء أنه صرح فريد من نوعه في وقته.
وجمع الحاكم الأموي المعز لدين الله بين الحكم والعلم، وعكف علي اختراع قلم مزود بخازن للحبر، وأطلق عليه "قلم حبر"، وكان هذا منذ مئات السنين، وقال عنه ابن الأثير الجزري في مؤلفه "الكامل": إن المعز شهد له الجميع بفضيلته وعلمه، ورصد ابن الأثير أساليب عشقه وتأملاته في مسارات النجوم وفي أوقات غيابها وسطوعها، ودفعه عشقه بمصابيح السماء إلي دراستها علي النهج العلمي.
وحدثنا المؤرخون عن رأس الدولة الأيوبية صلاح الدين الأيوبي ، أن مجلسه أخذ طابع مجالس العلماء والفقهاء، وكان يتضمن مشاركات علمية، ويرصد الذهبي في مدوناته هذا السجال نقلا عن "الموفّق عبد اللطيف" أحد ندماء صلاح الدين، أن مجلسَه كان حاَفِلًا بأهل العلم والمداولات، وتجده يحسن الاستماع والمشاركة"، ثم يخبر ابن كثير عن أحفاد صلاح الدين الملك "أبي الفداء الأيوبي"، الذي اهتم بإمداد المكتبة الإسلامية بمؤلفات في العلوم التطبيقية كالطب والفلك.