إن من تعظيم القرآن الكريم تعظيم صفته التي اصطفاها الله له من فوق سبع سماوات، بقوله تعالي: «هُدًي لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَي وَالْفُرْقَانِ» (البقرة: 185)، وقوله سبحانه: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» (الإسراء: 9).
وإن من الإساءة للقرآن الكريم التي عمد إليها الإسلام السياسي المغرض وصفه بالدِّستور أو القانون، وتغييب صفة الهداية القرآنية؛ لتزييف وعي الشعب المصري العظيم، الذي اتَّجه بفطرته السَّوية إلي اتِّخاذ دستور رضائي تنبثق منه القوانين المنظِّمة لعلاقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتَّشريعية؛ فتكون حاكمة بسيادته وسلطته الحرَّة، وذلك بعد انتزاع استقلاله المنقوص من المحتل البريطاني سنة 1922م، واكتشافه الفراغ التَّشريعي الذي عاش فيه قرونًا كمقاطعة أو ولاية من الولايات التي استولت عليها الدولة العثمانية البائدة سنة 1517م، والتي لم يكن يعنيها بناء الشعوب التي سيطرت عليها، وإنما عملت علي استنزاف مواردها الطبيعية، وثرواتها البشرية الفكريَّة والفنيَّة والحرفيَّة، واعتمدت في نجاح سيطرتها علي تلك الشعوب بالمتاجرة الدينيَّة، فهي حامية الدِّين، وحارسة العقيدة، وسادنة الشَّريعة، وكفي بذلك نعمة وأحلامًا للمسلمين في الدنيا تحت رعايتها، حتي سقطت دولتهم كشأن كل فاسد - مسلمًا أو غير مسلم - في الحرب العالمية الأولي 1914م، كما قال تعالي:
«وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَي بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ» (هود: 117)، وقال سبحانه: «وَتِلْكَ الْقُرَي أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً» (الكهف: 59)، فوجدت مصر نفسها أمام قدرها، وليس لها - بعد الله عز وجل - إلَّا شعبها الأصيل، الذي نجح بكل جسارة في بناء دستوره الوطني لأول مرة سنة 1923م؛ لينطلق من ظلمات المتاجرة الدينية إلي نور الحضارة الإنسانية، مهتديًا بقوله تعالي: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّي لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ف» (الأنفال: 39)، فأعلن شعاره الخالد: «الدِّين لله، والوطن للجميع».
افتأت المأجورون عند المتاجرين بالدِّين لاختطاف حكم مصر - والذين اصطلح علي تسمية اتِّجاههم ب الإسلام السياسي من الإخوان وأشباههم - وحاولوا وأد اختيار المصريين لدستورهم الرِّضائي الذي أمر الله بالوفاء بأمثاله في قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (المائدة: 1)، وقوله سبحانه: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً» (الإسراء: 34)، فافتروا علي القرآن الكريم كلِّه بوصفه الدستور والقانون؛ ليجعلوه في مواجهة دستور الشعب وقوانينه، ويظل الشعب مدي الحياة مُحبطًا ومنكسرًا بعقدة الذَّنب والتَّقصير تجاه قانونيَّة القرآن الكريم المكذوبة، والتي جعلوا منها فتنة لاختطاف سلطة الشعب وسيادته باسم القرآن الكريم الذي احتكروا تفسيره، بافتراء علمهم بمراد الله منه، فعلت كلمتهم في الأرض كما علت لفرعون يوم قال: «مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَي وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ» (غافر: 29)، واستخفُّوا أتباعهم بجعل حلم تطبيق الشريعة - بحسب رؤية المرشد - هو غاية المني الذي يعلو صوت الجهاد له، والتَّطوُّع بالأنفس والأموال من أجله، كما استخفَّ فرعون قومه من قبل، فكشف الله السبب الذي يوقع الإنسان في فخ الاستخفاف بقوله تعالي: «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ» (الزخرف: 54).
إن وصف القرآن الكريم بالدستور أو القانون هدم لرسالته التّنويرية للعالمين، وتعتيم علي عدالته التي يقف بها علي مسافة واحدة من الناس أجمعين، كسائر آيات الله الهادية من سنن السابقين، ومن سنن الكون كالشمس والقمر والليل والنهار التي جعلها الله لسائر خلقه، بالإضافة إلي أن وصف القرآن الكريم بالدستور أو القانون هو إساءة له، وانتقاص من عظمة هديه الخالد، ونذكر في بيان ذلك أربعة أوجه، كما يلي:
الوجه الأول: تنحية وصف الله لكتابه بالهداية وإحلال وصف المغرضين له بالدستور أو القانون، وقد قال تعالي: «صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ» (البقرة: 138)، وقوله سبحانه: «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (المائدة: 50)، وقوله جل شأنه: «قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (الحجرات: 16).
الوجه الثاني: إسقاط جوامع كلم القرآن الكريم وخلوده زمانًا ومكانًا بوصفه دستورًا أو قانونًا؛ لأن الدستور أو القانون أحادي الدِّلالة، وإذا احتمل بعض ألفاظه التَّعدُّدية كان عيبًا في صياغته واجب الإزالة؛ فكان بحكم وضعه محدود العمر في حاجة دائمة إلي التَّحديث كلَّما تغيَّرت الأوضاع، أما وصف القرآن الكريم بأنه «هَدَي النَّاسَ» فيجعله جامعًا للكلم، متدفِّق المعاني التي لا تنفد بما يجعله خالدًا بهذا التَّدفُّق الذَّاتي، كما قال تعالي: «قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً» (الكهف: 109)، وقال سبحانه: «وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (لقمان: 27)، وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أن النبي y قال: (بعثتُ بجوامع الكلم)، وفي لفظ: (أعطيتُ جوامعَ الكلم)، وفي لفظ: (أوتيتُ جوامعَ الكلم).
وهذه الغزارة في دلالات القرآن الكريم تهدي أهل كلِّ عصر ومصر أن يضعوا قوانينهم الوطنية بإحدي الدلالات التي تناسبهم، دون إلزامهم بدلالة معيَّنة قد تتعارض مع المقتضيات الزمانية أو المكانية.
الوجه الثالث: تعيين أوصياء أو سدنة علي القرآن الكريم يحسمون دلالته ويقيمونه قسرًا علي الناس نيابة عن الله سبحانه في حال وصف القرآن بالدستور أو القانون؛ إذ لا يمكن للدستور أو القانون أن تكون له السيادة إلَّا بأوصياء وسدنة باسم الشعب لحسم دلالته وإنفاذه بالقوة، فيما يعرف بالمحكمة الدستورية والسُّلطة القضائية.
وهذه الوصاية البشرية لا تليق بالقرآن الكريم الذي أنزله الله سبحانه خيارًا لمن يؤمن به، وهداية لمن يتفكَّر فيه ويتعقَّله ويتدبَّره من جميع البشر دون أدني وصاية من أحد علي أحد سوي ضميره الذَّاتي وقلبه الذي يلقي به ربَّه، وقد تظاهرت النصوص القرآنية بذلك، ومنها قوله تعالي: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» (البقرة: 256)، وقوله تعالي: «وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف: 29)، وقوله سبحانه: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (النحل: 44).
وقوله سبحانه: «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (يوسف: 2)، وقوله جلَّ شأنه: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَي قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» (محمد: 24).. وإذا لم يخضع القرآن الكريم - بحكم وضعه الإلهي - لوصاية مخلوق أو سدنته، فإن وصفه بالدستور أو القانون ينال من قدسه العالي، ويجعلة تحت وصاية المخلوق الذي يخطئ ويصيب، بالإضافة إلي عدم قابلية القرآن الكريم أصلًا لأن يفرضه أحد علي أحد، ولهذا قال عثمان بن عفَّان: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» (النكت والعيون للماوردي ت450هـ، ومجموع الفتاوي لابن تيمية ت728هـ، ونسبه ابن كثير ت774هـ في «تفسيره» للحديث دون إسناد).
كما أنه إذا اتَّسع القرآن الكريم لكل ذي عقل، مع تعدُّد المدارس الفكريَّة واللغوية في الفهوم، فقد سقط القول بوصفة دستورًا أو قانونًا مُلزِمًا؛ ليبقي - كما أنزله الله تعالي - كتاب هداية للعالمين، ونورًا للناس أجمعين، لا يحول دون مبدأ سلطان الإرادة الفطري لكل مكلَّف، والذي تبثق منه سلطة الشعوب في وضع دساتيرها الوطنية، وقوانيها الاتِّفاقية التي تقوم علي مصالح الناس المشتركة بحاكميَّة السُّنن الكونيَّة أو الفطريَّة دون قيد من ألفاظ الكتاب السماوي الهادي، أو شرط منها؛ حتي تكون اختيارًا علي مسئولية من اختار أحد أوجه معانيها، وليس علي مسئوليَّة ذواتها المُقدَّسة.
الوجه الرابع: تحديد نطاق الاهتداء بالقرآن الكريم زمانًا ومكانًا وأشخاصًا في حال اتِّخاذه دستورًا أو قانونًا، فالدستور أو القانون بحكم وضعه لا يصلح إلَّا أن يكون لزمن دون زمن، ولمكان دون مكان، ولأناس دون أناس.
وهذا التَّحديد النِّطاقي يخالف شأن القرآن الذي أنزله الله تعالي هداية للناس كافة، فهو لك ولغيرك، ولكل أحد فيه مثل ما لغيره؛ كما قال تعالي عنه: «هُدًي لِلنَّاسِ» (البقرة: 185)، وقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً» (النساء: 174)، وقال جل شأنه: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَي فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ» (يونس: 108).
إن تقديم القرآن الكريم بوصف الهداية الإلهي - لا بوصف القانون البشري - يجعله ليِّنًا طيِّعًا في فكر كل عاقل؛ ليحاسب يوم القيامة عن اختياره للدِّلالة التي حملها علي لفظه، فألفاظه حمَّالة المعاني والدلالات؛ ليتنافس كل مُكلَّف في اختيار المعني الأحسن من وجهة نظره وقلبه، كما قال تعالي: «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» (الزمر: 55)، وأخرج الدارقطني عن ابن عباس، أن النبي y قال: «القرآن ذلول، ذو وجوه، فاحملوه علي أحسن وجوهه».
ويصير القرآن الكريم بهدايته للعالمين كالشمش والقمر والنجوم التي جعلها الله ضياء ونورًا وهداية، وحسبانًا لكل خلقه، حتي إنه يطيع قواعد الاستنباط المتباينة، ونظريات الفقه المختلفة، كالتَّوقُّف عن العمل عند المقتضي، وكحمل مطلقه علي مقيَّده والعكس، وتقييد عامِّه بخاصِّه، أو بقاء عامِّه علي عمومه وخاصِّه علي خصوصه، وكتقديم إحدي دلالات ألفاظه المشتركة علي غيرها، أو تقديم الدلالة الحقيقية علي الدلالة المجازية أو العكس، وكالحكم علي آياته بالإحكام أو بنسخ كثير منها؛ حتي يتمكَّن المُهتدون بهديه من وضع اختياراتهم الفقهية الأنسب لزمانهم ومكانهم وحالهم في قانون رضائي يلتزمون به ويتحاكمون إليه، ولا يمنعهم هذا القانون من تجديده كليًّا أو جزئيًا كلَّما تغيَّرت أوضاعهم.
وبهذا يكون وصف القرآن الكريم بالهدي - وليس بالدستور أو القانون - هو تصحيح لزيف الإسلام السياسي السَّاعي للتَّسلُّط علي المؤمنين واختطاف عقولهم باسم «ولاية الفقيه» عند سدنة أهل الشِّيعة، أو «ولاية الإفتاء» عند سدنة أهل السُّنَّة؛ خصمًا من سيادة الإنسان علي نفسه التي جعلها الله سبحانة فطرة كونيَّة، كما قال تعالي: «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ» (الإسراء: 13)، وأخرج ابن عدي في «الكامل»، عن أبي هريرة، أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «كلُّ بني آدم سيِّد»، وأخرج أحمد عن وابصة بن معبد، وعن أبي ثعلبة الخشني، أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «استفت نفسك، استفت قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك، أو وإن أفتاك المفتون».
وليس قلب أحد في نفسه أو سيادته عليها أولي بالاعتبار من قلب غيره في نفسه أو سيادته عليها؛ حتي يكون الرأي الذي يعود بالمصلحة المعتبرة عند الجميع هو السيَّد علي الرأي الذي يرعي مصلحة صاحبه دون غيره.
وإذا عاد للقرآن الكريم وصفه الإلهي بأنه كتاب هداية، وتم تطهيره من صفة الدستور أو القانون التي تسيء إليه وتنتقص من مقامه العالي، كما أوضحنا، فإنه يكون انتصارًا لكتاب الله من تحريف مساره، وإيقافًا للغزو الفكري الإرهابي باسم الإسلام السياسي، وعُلوًّا للإسلام الديني الذي ارتضاه الله للناس في قوله سبحانه: «وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً» (المائدة: 3)، علي الإسلام التِّجاري المفتئت علي الله بجعل الإسلام له دينًا وسياسة أو دينًا ودولة، مع أن السياسة والدولة للإنسانية بفطرتها الرَّشيدة دون الاستقواء بدين علي دين.
وبهذا الانجاز التَّصحيحي تتم الخطوة الأولي في إصلاح الخطاب الديني.