إسماعيل منتصر يكتب «خواطر حرة جدا»: أخيرًا الحكومة نطقت !

إسماعيل منتصر يكتب «خواطر حرة جدا»: أخيرًا الحكومة نطقت !إسماعيل منتصر يكتب «خواطر حرة جدا»: أخيرًا الحكومة نطقت !

*سلايد رئيسى23-10-2018 | 17:54

إذا سُئلت الفتاة عن رأيها فى العريس المتقدم للزواج منها وسكتت.. يكون سكوتها معناه أنها راضية وموافقة.. وإذا صاحب هذا السكوت ابتسامة عريضة توحى بالخجل.. يكون ذلك معناه أنها مستعدة أن "تنقلع" لها عين وتتزوج هذا العريس!

صحيح أن فتيات هذه الأيام أكثر جرأة من الشبان لكن لا يزال معظم الفتيات يستخدمن السكوت تعبيرًا عن الموافقة.. ربما للإيحاء للعريس بأنها "بنت متربية" أو إرضاء لغرور الأب أو الأخ الذين يريدون أن يفتخروا بتربية ابنتهم!

السكوت إذن مفيد وهو أيضا وسيلة من وسائل تحقيق الأهداف والوصول إليها.. لكن هل كل سكوت مفيد؟!.. وإذا كان السكوت مفيدًا للفتيات فهل هو مفيد للمسئولين؟!.. هل يمكن أن تسكت الحكومة مثلا؟!

الإجابة اكتشفتها بنفسى!..

فى بداية عملى بالصحافة كلفنى الأستاذ أنيس منصور أول رئيس تحرير لمجلة أكتوبر بعمل تحقيق صحفى عن مشكلة النظافة فى القاهرة.

اتجه تفكيرى لتنفيذ الموضوع بطريقة غير مألوفة وغير تقليدية، فبدأت مهمتى من المبانى الحكومية الضخمة وحاولت أن أعرف كيف يتم تجميع قمامة هذه المبانى وكيف يتم التخلص منها..

هكذا قررت أن أبدأ مهمتى من مبنى مجمع التحرير.. أشهر مبنى حكومى فى مصر كلها.

التقيت بمدير أمن المبنى والمسئول إداريًا عن نظافته وصيانته وأمنه.. وجلست فى مكتبه أسأل وأسمع وأسجل.

راح الرجل يحدثنى عن الجهود العظيمة التى يبذلها هو ورجاله للحفاظ على مبنى مجمع التحرير.

وسط الحديث فلتت من الرجل عبارة جعلتنى أشعر أننى أمام صيد ثمين!

قال الرجل إنهم يواجهون مشاكل معقدة خلال القيام بمهمتهم وضرب مثلا بالرجل الذى أقام هو وزوجته وأبناؤه لمدة ثلاثة شهور فى إحدى غرف المجمع!

خفت أن يضيع منى الصيد الثمين فتظاهرت بأن ما قاله الرجل لم يثر انتباهى.. ثم بدأت ألاعب الرجل!

استمرت تساؤلاتى عن مشكلة النظافة ثم قمت بقطع الحديث بطريقة عفوية وسألت الرجل عن حكاية الأسرة التى عاشت ثلاثة شهور فى مجمع التحرير.. ثم عدت بسرعة إلى موضوع مشكلة النظافة وكأن الحكاية لا تهمنى.. ومن جديد أقطع الحديث بطريقة عفوية وأسأل عن حكاية هذه الأسرة العجيبة.. وهكذا حتى اكتملت القصة فى ذهنى.

وعرفت كل التفاصيل.. عرفت أن أحد السعاة كان مسئولا عن مكتب مدير عام إحدى المصالح الحكومية الموجودة بالمجمع.. وحدث أن توفى مدير المصلحة لكن أحدًا لم يأت لشغل موقعه.

ولمدة شهرين ظل الساعى ينظف الحجرة الخالية ثم يقوم بإغلاقها دون أن يسأله أحد.. ثم حدث أن وقع شجار بين الساعى وزوجته فقامت على أثره بطرده من منزل الزوجية فى حى عابدين الشعبى.

لم يجد الرجل مكانًا يبيت فيه إلا غرفة مديره المتوفى والتى كان مسئولا عنها فذهب لقضاء ليلته.. واستمر الحال أسبوعين كاملين وتمادت الزوجة فى غضبها فقامت باصطحاب ابنه وابنته إلى مقر عمله.. مجمع التحرير.. وأخبرته بأنها غير قادرة على رعايتهما وتركتهما له!

لم يجد الرجل حلًّا إلا اصطحاب ابنه وابنته إلى حجرة المدير المتوفى وراح يدبر لهما بعض الحاجبات التى تساعدهم على المعيشة!

المثير للدهشة أن أولاد الحلال تدخلوا وأصلحوا بين الرجل وزوجته لكنها رفضت عودته مع الأولاد للمنزل واشترطت أن تقيم معه فى مجمع التحرير (!!!)

وافق الرجل وبدأ يحضر إلى غرفة المدير المتوفى كل مستلزمات معيشته بالتدريج.. مراتب وأغطية وأوانى وموقدًا صغيرًا (!!!).. واستمرت هذه العيشة الهنية ثلاثة شهور كاملة حتى انكشف أمره بالمصادفة وتم التحقيق معه وأجبر على الاستقالة!

كتبت روايتى الصحفية بكل تفاصيلها وقابلت الأستاذ أنيس منصور وقدمت له موضوع الأسرة التى عاشت ثلاثة شهور فى مجمع التحرير.. واعتذرت عن عدم تنفيذ الموضوع الذى كلفنى به.. مشكلة النظافة.

نظر إلىّ الأستاذ أنيس معاتبا ثم راح يقرأ ما كتبته.. واختفت نظرات اللوم وحلَّ محلها نظرة رضا!

انتزع الأستاذ أنيس منصور ورقة صغيرة من فوق مكتبه وكتب فيها مكافأة محترمة لى، لكن المكافأة الأكبر كانت اختيار الموضوع غلافًا لمجلة أكتوبر.

اختار الأستاذ أنيس صورة الغلاف بنفسه.. صورة ضخمة لمجمع التحرير، رسم فوقها حبل غسيل منشور عليه بعض الملابس وكتب عنوان الغلاف.. واحد ساكن فى مجمع التحرير!

ظلت القصة بالنسبة لى سبقًا صحفيًّا وبرهانا على مهارتى الصحفية، لكننى بعد سنوات رحت أفكر فى الحكاية من زاوية مختلفة.

سألت نفسى كيف وقع هذا الحادث العجيب.. كيف استطاع رجل أن يسكن فى أشهر مبنى حكومى تعرفه مصر.. وتوصلت إلى الإجابة، إنه السكوت.. سكوت الرجل عن استمرار غرفة مديره خالية بعد وفاته وعدم إبلاغ المسئولين.. وسكوت زملاء الرجل ورؤساؤه ثم سكوت رجال أمن المجمع الذين بالتأكيد أثار اهتمامهم وجود الرجل فى المجمع بعد انتهاء مواعيد العمل الرسمية.

شغلتنى مسألة السكوت طويلا واتسعت دائرة تفكيرى وتعمقت فاكتشفت أن معظم مشاكلنا إن لم يكن كلها سببها السكوت.. الصمت الرهيب على رأى شاعرنا الراحل كامل الشناوى..

مشكلة العشوائيات انتشرت وتفحلت لأن الحكومة سكتت والتزمت الصمت أمام الأسباب الحقيقية لأزمة الإسكان.. وزاد انتشار العشوائيات حتى فى أرقى الأحياء السكنية لأن الحكومة سكتت والتزمت الصمت أمام مشكلة مخالفات المبانى الفظيعة.

ثم مشكلة التوك توك التى أصبحت ظاهرة فى كل المدن المصرية.. ليس لها إلا سبب واحد، سكوت الحكومة عن أزمة المواصلات.

فى البداية سكتت الحكومة عن انهيار خدمات النقل العام فأصبح المواطن لقمة سائغة لسائقى التاكسى.. ويستمر سكوت الحكومة فيلجأ الناس إلى حل عشوائى.. الميكروباص، ويتحول الميكروباص إلى مشكلة تسكت أمامها الحكومة فيظهر التوك توك ويستمر سكوت الحكومة فيتحول التوك توك إلى مرض مزمن يسد شرايين المواصلات والطرق.

انظُر إلى الأرض الزراعية التى تآكلت لتعرف أن السكوت والصمت مصيبة وجريمة.

فى أعقاب ثورة 25 يناير انتشرت حالات التعدى على الأراضى الزراعية فبلغ عددها منذ ذلك التاريخ وحتى الآن مليون و900 ألف حالة تعدٍّ.. هل تصدق.. كل ذلك والحكومة ملتزمة السكوت والصمت!..

ويقتضى الإنصاف وتقتضى الموضوعية أن نقول إن الحكومة بدأت مؤخرًا تتكلم.. بدأت تتخلى عن السكوت والصمت.

ارتفعت أسعار العقارات والمبانى بشكل ملحوظ فوصلت إلى أرقام فلكية، لكن الحكومة لم تسكت وتلتزم الصمت كعادتها وإنما راحت تسابق الزمن لتنفيذ عدد كبير من مشاريع الإسكان.. وعلى سبيل المثال قامت الحكومة فى العام الماضى ببناء 439 ألف وحدة سكنية جديدة.. وليس هناك شك فى أن استمرار العمل بهذا المعدل سيؤدى إلى تخفيض حدة الأزمة بشكل ملحوظ.

أكد لى أحد الأصدقاء الذين أثق فى قدرتهم على التحليل والاستنباط.. أن أسعار المبانى فى المدن الحديثة كمدينتى انخفض من 18 ألف للمتر إلى 13 ألف فقط.. كل ذلك لأن الحكومة لم تسكت وقالت كلمتها!

أسعار الخضر والفاكهة والمواد الغذائية عمومًا أصبحت ظاهرة تؤرق مضاجع المواطنين.. لكن الحكومة لم تسكت.. وهكذا بدأت تنفيذ مشروعات زراعية عملاقة.. مشروع استصلاح مليون ونصف المليون فدان.. ومشروع مستقبل مصر الذى تبلغ مساحته مليون فدان وألفى صوبة زراعية، كل واحدة منها تشغل مساحة فدان.. وقد تم بالفعل الانتهاء من إنشاء 500 صوبة منها وأصبح إنتاجها موجودًا فى الأسواق.. كل ذلك سيؤدى بالقطع إلى خفض الأسعار.

وبنفس الطريقة اقتحمت الحكومة العديد من المشاكل المزمنة.. الطرق، الكهرباء، الثروة السمكية، والثروة الحيوانية وغيرها.

الحمد لله.. أخيرًا سمعنا صوت الحكومة!

    أضف تعليق

    وكلاء الخراب

    #
    مقال رئيس التحرير
    محــــــــمد أمين
    إعلان آراك 2