الفعل ورد الفعل .. والجريمة الاستفزازية

الفعل ورد الفعل .. والجريمة الاستفزازيةغلاب الحطاب

الرأى19-4-2024 | 13:32

منذ زمن قريب وكلت للدفاع فى إحدى القضايا التى تصنف تحت مسمى ،الجرائم الاستفزازية، وهذه الجرائم مركبة الأفعال والأوصاف أيضًا، لأن الجاني فى الأصل ضحية والضحية فى الأصل هو الجاني .

لكن والحق أقول: إن هذه الجرائم لم تلق حتى الآن اهتمامًا من المشرعين و القضاء سوى بعض الآراء الفقهية، وأن بعض السادة القضاة يعتبرونها مدعاة لتخفيف العقاب على الجناة .

وحينما كانت جلسة المحاكمة بدأت دفاعى قولًا:" سيدى القاضى ،قبل أن تسأل الضارب لماذا ضربت ؟، أسأل المضروب ماذا فعلت ؟،وهذه العبارة التى - ارتجلتها - كانت مفتاح القضية وهى أيضًا بداية لهذا المقال .

حيث قال "نيوتن" فى قانونه الثالث "لكل فعل رد فعل"، ويعتبر هذا القانون من أكثر قوانينه الثلاثة تواجدًا وانتشارًا وموضوعية وبساطة، وإن كان هذا القانون يجد مجاله فى الفيزياء والميكانيكا بوجه عام ،إلا أن هذا القانون انعكس على كافة مجالات الحياة بشكل خاص .

فيما يعرف بعنصر الاستفزاز، وهو يشكل علاقة بين الجاني والمجني عليه، إذ يقوم المجنى عليه بإتيان أفعال تكون هذه الأفعال مصدرًا لاستفزاز الجاني تدفعه دفعًا للاعتداء عليه تحت وطأة الغضب من الفعل الاستفزازى الذى قد يسلب الجاني إرادته وعدم السيطرة على مداركه فيكون وقوع الجريمة أمرًا حتميًا .
وأفعال الاستفزاز لا حصر لها ولكن عرفها بعض الفقهاء بأنها،"كل فعل أو موقف جارح يتخذه المجنى عليه لإثارة غضب الجاني"، وكلما كان فعل الاستفزاز شديدًا نتج أيضًا عنه غضًبا شديدًا يمنع الجاني من كمال التثبت والتروي ويخرجه عن الاعتدال فى رد الفعل.

والسبب فى ذلك هو ثورة الغضب التى اجتاحت كافة جوانح الجاني ودفعته دفعًا لارتكاب الجريمة نتيجة لثورة الغضب التى أعدمت إرادته فأصبحت إرادة مندفعة هوجاء، ومن شأن ذلك إنقاص صلاحيته للمسئولية عن رد فعله، متى نتج عن هذا الفعل جريمة يعاقب عليها القانون أو العرف السائد؟، ويصبح من الأولى الأخذ فى الاعتبار الأفعال التى أتاها المجنى عليه والتى أدت إلى قيام الجاني ودفعته إلى ردة الفعل، خاصة أن المجنى علية حينما قام بأفعاله الاستفزازية كان كامل الإرادة والإدراك .

نعود إلى الغضب الذى سيطر على الجانب نتيجة أفعال المجنب عليه الاستفزازية ،الذى هو حالة نفسية ثائرة مصحوبة باضطرابات فسيولوجية تجعل الإنسان فاقد السيطرة على الحرائق التى أشعلتها -الأفعال الاستفزازية - فى نفسه ،الأمر الذى يعتبر القضاء أن الجانب كان تحت وطأة عذر دفعه إلى ارتكاب الجريمة ومن هذه الأعذار ماهو مخفف للعقوبة ومنا ماهو معفي من العقوبة، فيعتبر مثلا ارتكاب الجريمة لبواعث الشرف ودفعًا لغسل للعار عذرًا، وأيضا استفزاز المجني عليه للجانى استفزازًا شديدًا -بغير حق - عذرًا مخفف للعقوبة .
نعود للقضية التى كنت فيها مدافعًا عن الجاني، الذى ارتكب فعل الاعتداء على المجنى عليه، التى دارت أحداثها على النحو الأتى :
قام أحد الأشخاص المعروف عنه سوء السلوك والتخصص فى جرائم السرقة بالسطو على أحد منازل شيخ غفر القرية وسلب منه ماشيته الوحيده ولم يكتف بذلك بل قام بربط كلبًا مكان الماشية، ثم انصرف وحين انكشف أمره ذهب المجني علية ومعه بعض أهليته إلى أهلية السارق لحثهم على إنهاء الأمر بطريقة تحفظ لكل طرف ماء وجهه ،إلا أن أهلية السارق تنكروا له وأبلغوا المسروق منه أنهم براء من أفعال ابنهم.
عاد شيخ الغفر - وهو الحارس للقرية - مجروح الكرامة وقد تم الاعتداء على منزله وعرضه وانتظر بضعة أيام حتى رأى اللص يجوب شوارع القرية وأمسك به وأشبعه ضربًا محاولًا معرفه مكان الماشية التى سرقها منه لكن لم يستطع أن يخرج منه بمعلومة واحدة ، خاصة أن اللص كان واقعًا تحت تأثير مخدر قوي ، فلم يجد شيخ الغفر بدًا من أن يركبه حمار ويجوب به شوارع القرية ردًا لشرفه وكرامته التى ذبحت بغير سكين .
ولكن حينما علم أهلية اللص - وهم ذوي نفوذ- بما حدث استشاطوا غضبًا وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها حتى هجر شيخ الغفر وأهليته منازلهم بل القرية كلها، بعدما تم القبض على عدد غير قليل منهم، وأحليت القضيه للقضاء للحكم فيها وكانت الأحكام منصفة .
الشاهد من ذلك أن قبل أن تلوم على الجاني، ابحث عن فعل المجني عليه وحدث نفسك، ماذا كنت تفعل لو كنت مكانه؟، أليس أقرب موارد العدالة هو القياس على النفس؟!

أضف تعليق

تدمير المجتمعات من الداخل

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2