تزامنا مع احتفال العالم باليوم العالمي لحرية الصحافة، والذي يوافق الثالث من مايو من كل عام، يواصل الاحتلال الإسرائيلي عمليات «الانتهاك الصارخ لحرية الصحافة»، وارتكاب جرائم الاغتيال المباشرة والاعتقال والتعذيب والتنكيل ضد الصحفيين الفلسطينيين، على مدار أكثر من 200 يوم من الحرب الضروس على قطاع غزة؛ للتعتيم على حرب الإبادة الجماعية التي تُمارس في حق الشعب الفلسطيني، ومع ذلك يواصل المراسلون الفلسطينييون تعريض حياتهم للخطر، في سبيل كشف وتوثيق العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، يقفون في ميادين القتال على بعد خطواتٍ معدودة من «قلب ساحة الحرب»؛ لـ رصد كافة الوقائع والجرائم التي يرتكبها العدو، والتي لا تفرق بين البشر والحجر، ومع ذلك لا تقتصر معاناتهم ومأساتهم في نقلهم للأحداث والوقائع الغاشمة، بل تمتد إلى ما بعد من ذلك، فـ جمعيهم «يعيشون في قلب الحدث»، بين نازحين ومصابين، ومنهم من أصبح هو وعائلته «الحدث».
التقت «بوابة دار المعارف»، بعددٍ من المراسلين الفلسطينيين، أبطال «توثيق جرائم العدو»؛ ليشكفوا سر الشجاعة والصمود الذي يجعلهم يتشبثون بميادين القتال دون تردد أو خوف، وسط حملة الجرائم الممنهجة ضدهم، بالإضافة إلى أهم ما يحرص عليه المراسل والصحفي الفلسطيني لتوثيقه ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأصعب المواقف التي يتعرضوا إليها خلال توثيقهم لجرائم الحرب.
تمويه دموي
تبدأ، أحلام حماد الصحفية الفلسطينية بشبكة نوى والترا فلسطين، والتي أجبرها العدوان على ترك منزلها، والنزوح لـ مدينة رفح الفلسطينية، قائلة: منذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتعمدت قوات الاحتلال استهداف الصحفيين بشكلٍ ممنهج، في محاولة يائسة منه؛ لـ«اخفاء جرائم الإبادة»، ووقف التغطية، إلا أن الصحفيين واجهوا ذلك بالإصرار، ورفعوا شعار التغطية مستمرة، ودفعوا في سبيل ذلك ثمنًا باهظًا من دمائهم ودماء أسرهم وعائلاتهم، وآخرهم الزميلة الصحفية آمنة حميد والزميل الصحفي محمد بسام الجمل، اللذان استشهدوا أثناء تغطياتهم لجرائم الحرب؛ لترتفع كوكبة الشهداء الصحفيين الى 141 شهيدًا وشهيدة قتلتهم آلة الإرهاب الإسرائيلية داخل منازلهم أمام عائلاتهم، وخلال عملهم بالميدان.
مهمة وطنية
وتضيف: رغم كل ما يحدث للصحفيين الفلسطينيين من استهداف وقتل متعمد، ألا أنهم متمسكين كل التمسك بمواصلة عملهم، والسر وراء شجاعة الصحفي الفلسطيني واصراره على تحدي المخاطر ومواصلة التغطية؛ لأنه جزء من القضية وليس غريبا عنها، والصحفي أثناء عمله يشعر أن عمله مهمة وطنية، وليست مهنية وإعلامية فقط؛ لذلك كلما أصابه التعب والإرهاق يُذكر نفسه أن التراجع خيانة ولا ينبغي أن يسقط القلم والكاميرا.
وتتابع: للصحفيين الفلسطينيين الدور الأبرز والأهم في توثيق المجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي، خاصةً تلك التي تستهدف المدنيين في المنازل السكنية وتبيد عائلات بأكملها، وتمحيهم من السجلات المدنية، وغالبيتهم من النساء والأطفال، كما وثقنا كـ صحفيين «جرائم مروعة» من الإعدام الميداني، والتعذيب، ودفن الشهداء في مقابر جماعية داخل المستشفيات، وآخرها ما اظهرته الصور من مشاهد مؤلمة في مجمع ناصر الطبي في خان يونس جنوب قطاع غزة، حيث قتلت قوات الاحتلال أثناء اجتياحها للمجمع مئات المرضى والنازحين، وكما وثقنا تداعيات الحرب على الأوضاع الإنسانية ومعاناة مئات الآلاف من ضرر المجاعة، خاصةً في شمال القطاع.
ذكريات عالقة
واختتمت «أحلام»، حديثها بالتحدث عن أصعب المواقف التي يتعرض إليها الصحفي الفلسطيني، قائلة: المواقف الصعبة التي نتعرض إليها كل يوم مع الثواني والدقائق لا تُعد ولا تُحصى في هذه الحرب المجنونة، ونحن كصحفيات تزداد معاناتنا بالبعد لساعات طويلة عن الأسرة والأبناء تحت وطأة ضغط العمل والتغطية الميدانية، ونواجه تحديات كبيرة مع عدم توفر الإنترنت ورداءة الاتصالات، وأنا شخصيًا فقدت تليفوني المحمول، واللاب توب في قصف استهدف منزلًا مجاورًا لي، وفقدت العديد من الأشياء التي توفر عليّ عملنا الشاق، وهناك العديد والعديد من المواقف الصعبة التي نتعرض لها ونمر بها، وستبقى عالقة في ذاكرتنا لآخر العمر.
إعاقة وتقييد حرية
ويلتقط طرف الخيط، ليسرد معاناة والآلام الصحفي الفلسطيني وعمليات الاستهداف الممنهجة ضدهم، عدلي أبو طه، المراسل الميداني الفلسطيني، قائلًا: تعددت الانتهاكات بحق الصحفيين الفلسطينيين كالاستهداف المباشر، والقتل والاعتقال، وهو ما «يعيق عمل الصحفيين» ويقيد حريتهم، حتى في التعبير عن آرائهم، ورغم كل القوانين الدولية التي تنص على حرية الرأي وحماية الصحفيين، إلا أن الصحفي في فلسطين دائمًا هو في دائرة الخطر والاستهداف.
ويضيف: لكن كل ما يفعله الاحتلال الإسرائيلي من انتهاكٍ لحقوق الصحفي الفلسطيني، لا يجعلنا نتراجع عن أداء عملنا، بل نواصله دون تردد، وليكمن السر وراء هذا التمسك بعملنا الذي يهدد حياتنا، هو العزيمة والإصرار على أداء واجبنا تجاه وطننا ورسالتنا الإعلامية، في فضح جرائم الاحتلال، وما يرتكبه من إبادة جماعية بكافة الوسائل والامكانيات.
مواقف صعبة
ويتابع «عدلي»: على الرغم من أصرارنا على عدم ترك الميدان والتمسك بأداء واجبنا الوطني أولًا ثم الإعلامى، إلا أن هناك مواقف يُصعب علينا جميعًا أن التعرض إليها، وهي أن يعرف الصحفي الذي يغطي الأحداث الميدانية بخبر استهداف لمنزله، وعائلته، أو استشهاد أحد من أصدقائه وأقاربه، وهو ما تعرضت له أنا شخصيًا لمثل هذه المواقف.
انتهاكات صارخة
ومن جانبه، يقول محمد حميدة، الصحفي الفلسطيني بقناة الكوفية: عمليات الاستهداف المتعمدة ضد عمل الصحفيين الفلسطينيين من قبل الاحتلال الإسرائيلي، ما هي إلا «انتهاكات صارخة لكافة المواثيق والمعاهدات الدولية» التي كفلت الحماية للصحفيين، ولكن للأسف المجتمع الدولي وكافة الأطر والتجمعات الصحفية الدولية، وعلى رأسها الاتحاد الدولي للصحفيين تغض نظرها المرتكبة بحقنا كصحفيين، والانتهاكات بحقنا لا تتوقف عند الاستهدافات المباشرة فقط، بل تتعدى أكثر من ذلك بكثير، سواء بعدم إدخال المعدات والأجهزة التي تتعلق بعملنا الصحفي، ومعدات الوقاية من دروع وخوذ وغيرها، بالإضافة لإعاقة حركتنا أثناء التغطية وقطع الاتصالات والانترنت.
ويضيف: نتعرض لانتهاكات كثيرة ولا تعد، ولكن يكمن السر في شجاعة الصحفي الفلسطيني، هو إيمانه بعدالة قضيته ومظلوميته، منذ أكثر من 75 عامًا، بالإضافة إننا كصحفيين نمتد قوتنا وشجاعتنا من أننا جزء من شعبنا، ونعلم أن القلم والصورة والكاميرا هي سلاحنا في مقاومة الاحتلال، بالإضافة إلى أننا كفلسطينيين وصحفيين دورنا هو توثيق جرائم الاحتلال بحق أبناء شعبنا، والتي تجاوزت العقل خلال حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، منذ أكثر من 200 يومًا، وخاصةً أن الاحتلال يمنع دخول لجان التحقيق أو حتى طواقم الصحافة الأجنبية؛ لذلك دورنا نحن كجزء من هذا الشعب الفلسطيني يتركز على توثيق وفضح جرائم الاحتلال وإظهارها للعالم.
ويتابع: كثيرة هي الأشياء التي نهدف إلى توثيقها كصحفيين في الميدان، ضد جرائم العدو، ولكن هناك بعض الأولويات للتوثيق، أبرزها الشق الإنساني الذي يتعلق باستهداف الأطفال والنساء، والجرائم التي يرتكبها الاحتلال بحق الصحفيين والطواقم الطبية، كذلك توثيق حالة الدمار التي يتعمد الاحتلال إلحاقها في المؤسسات المدنية والبنى التحتية والمساجد وغيرها، وخلال حرصنا على توثيق هذه الجرائم المخالفة لكافة القوانين والمواثيق الدولية تعرضنا لمواقف صعبة ومريرة، أصعب المواقف التي نتعرض خلالها توثيقنا وعملنا الميداني هي الاستهداف المباشر من قبل الاحتلال أو «مشاهدة اشلاء الشهداء الممزقة» أثر استهداف الاحتلال.
رعب مطلق
ويستكمل «محمد»: كذلك من المواقف التي تؤثر علينا هي دموع الأطفال خلال افتقادهم لعائلتهم، تخيل دموع طفل أو طفلة فقد أمه أو أبيه أو كليهما، أو ما زالوا تحت الركام، وجميعنا يتبادر إلى ذهننا عند رؤية هذه المشاهد، أننا كلنا معرضين لهذه المواقف، أيضًا من أصعب المواقف هي أن يحدث استهدافات في منطقة سكن عائلتك أو مكان نزوحهم خلال تغطيتنا الميدانية، الأمر الذي يدخلنا في حالة من التوتر والقلق صعب وصفها.
اغتيال الحقيقة
أما طارق دحلان، الصحفي والمراسل الميداني الفلسطيني، يقول: منذ أن بدأت حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر، والاحتلال الإسرائيلي يتعمد استهداف الصحفيين والمكاتب الصحفية كنوع من «قتل الحقيقة في القطاع»، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أعداد الشهداء من الصحفيين الفلسطينيين إلى أكثر من 140 شهيدًا صحفيًا، وما زالت المسيرة مستمرة، في حين هناك عدد آخر أصيب في هذه الحرب وكان أخرجهم الزميل سامي شحادة الذي تم استهدافه الاحتلال خلال تغطيته للتوغل البري في مخيم النصيرات، وأمام عدسات الكاميرات تم استهدافه بشكلٍ مباشر؛ ما أدى إلى بتر قدمه اليمنى وهو الآن يعاني من هذه الإصابة.
ويتابع: الصحفي الفلسطيني هو جزء من المجتمع، فالفلسطينيين في عادتهم أقوياء في هذه المواقف؛ لذلك أخذنا على عاتقنا المضي قدما في نقل الحقيقة وفضح جرائم الاحتلال بكافة الطرق، ودائمًا ما نسعى إلى نقل الحقيقة وتوثيقها بشكلٍ مميز من جميع التفاصيل، والاستهداف المباشر للمدنيين، كما نحاول البقاء في أماكن أكثر أمانًا حتى لا يتم استهدافنا بشكل مباشر، وسيظل هدفنا واحد وهو فضح جرائم الاحتلال.
روايات لا توصف
ويؤكد «طارق» أن جميع الأيام والمواقف صعبة للغاية، ففي كل لحظة نتعرض لموقف أصعب من سابقه، ولكن دائما ما كنا نقلق تجاه عائلاتنا اللاتي لم نلتقي بها منذ بداية الحرب، وحين سماع أي خبر عن استهداف بالقرب منهم نصبح بلا وعي، نريد الوصول إلى المكان في ظل المخاطر الممكنة، بالإضافة إلى مشاهد الأطفال وهم جرحى، والشهداء، ونتساءل ما الذي زرعه الفلسطينييون لكي يجنوا كل هذا الدمار والتعذيب؟ وفي كل موقف يحدث على هذه الأرض رواية لن يتوقعها العالم.