لا يمكن تزييف التاريخ وطمس المسلمات التاريخية عن وجود أمم صعدت وأفلت عبر مراحل زمنية مختلفة، وصنعت كل أمة منها حضارة خاصة بمقوماتها الفكريــــــة، وكان أبرز تلك الحضارات الآشورية والرومانية والفرعونية والبابلية، إنها حقائق تاريخية ليس فيها لبس رغم ادعاءات مدّعي التنوير.
و الحضارة الإسلامية وليدة إنتاج فكري وثقافي له ثوابت عقائدية وتقاليد اجتماعية، وتمتلك أي حضارة عدة مقومات أهمها نظام سياسي وموارد مادية وروافد ثقافية وفكرية من علوم وفنون، وتتميز الحضارات عن عصور الهمجية والتخلف بالازدهار وبرقي شعوبها وبعموم النهضة في كل ربوعها.
و الحضارة الإسلامية نهضت علي أرض ثابتة مشبعة بجميع المقومات سالفة الذكر، غير أنها اختصت بتصدير السمو الأخلاقي، وكانت سببا لانتشاره في كثير من الأقاليم حول العالم بفضل حسن المعاملة والأمانة، ولن يهز أركانها صراخ أعوان العم سام، ولن ينالوا من سيرة علمائها الأفذاذ الذين أضاءوا العالم بإبداعاتهم غير المسبوقة.
فلن ينسي التاريخ أحد علمائها حنين بن إسحاق ، وهو شيخ المترجمين ومن روادها في علم الطب ، وأبو زيد حنين بن إسحاق العبادي ولد لأب مسيحي اشتغل بالصيدلة والصيرفة، وكان حنين العالم المسيحي حجة علي أعداء الحضارة الإسلامية، ويشهد المؤرخون أن الحضارة الإسلامية لم تكن يوما عنصرية بل تقبل الآخر، وحنين واحد من مئات العلماء المسيحيين الذين خرجوا من تحت عباءاتها، وابنه إسحاق بن حنين ورث الطب عن أبيه، ولم يفارق بلاط الخليفة العباسي .
ويعتبر المؤرخون أبو زيد حنين من كبار المترجمين في الدولة العباسية، ورفض النقل الحرفي لترجمة النص، واعتمد ترجمة معني النص إلي اللغة العربية والسيريانية، وأتقن اللغة اليونانية، وعاصر ابن حنين خمسة من الخلفاء العباسيين، وصار من المقربين للخليفة المأمون.
وبلغت مؤلفاته 116 كتابا في مختلف العلوم منها 21 كتابا في الطب، ورغم تدوينه لتاريخ الطب خلال العصر الإغريقي فلم يمارس الطب علميا، ويعد كتابه "أسئلة عن الطب" من مؤلفاته المهمة في تدريس الطب للطلبة، ثم يليه كتابه "عشر وثائق في أمراض العيون".
وتذكر كتب التاريخ حكاية للعالم حنين في أحد مجالس العلماء التي كان يحضرها الخليفة، سأل: ما أول آلات الغذاء من الإنسان؟ كان ذلك بحضور مجموعة من الأطباء من بينهم يوحنا بن ماسويه وابن بختيشوع وسلمويه، فأجاب حنين مسرعًا: أول آلات الغذاء من الإنسان الفم، وفيه الأسنان، والأسنان 32 سنًا، ومنها اللحي الأعلي 16 سنًا، وفي اللحي الأسفل كذلك.
وما زالت الحضارة الإسلامية تبوح بأسرارها وكنوزها مكدسة بالذخائر العلمية والمعارف الإنسانية والأخلاقية، التي تجعلها صامدة في وجه معاول المخادعين وأباطرة الباطل.