المنصات الرقمية و حرب تدمير الهوية

لم تعد الحروب التقليدية فى مواجهة الدول هي الأكثر قدرة على هزيمتها، فى ظل التكلفة الضخمة لها وارتفاع حجم الخسائر البشرية، والتأثير السلبي على اقتصاديات الدول الواقعة فى أتون المواجهات المسلحة المباشرة.

الأمر الذي جعل من المواجهات الثقافية وعمليات التأثير على الشعوب والعقول طريقًا أقل كُلفة وأكثر تأثيرًا، فى ظل سهولة وإتاحة مسارات الوصول للعناصر المستهدفة، أو الشعوب المخطط السيطرة عليها لتشويه هويتها التي تعد بمثابة الجذر الثابت الذي يربطها بالوطن ويجعلها أكثر قدرة للحفاظ على الوطن.

خلال العقود الثلاثة الأخيرة كان المشهد فى المنطقة يزداد توحشًا، والاتجاه نحو أكبر معركة ثقافية لتغييب الهوية وتدمير وتشويه صور الشخصيات المؤثرة فى المجتمعات والتي تعد بمثابة القدوة والمثل للأجيال التالية.

إضافة إلى عمليات تدمير الأخلاق و قيم المجتمعات بدعوى الحريات، فى الوقت الذي غيب هؤلاء الداعون للحرية عن عمد أن الحرية الطبيعية فى المجتمعات هي الحرية المسئولة.

فكما قال «مونتسيكو»: تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الآخرين، من هنا كانت الحرية المنضبطة والمسئولة هي الحرية السليمة التي تساعد فى بناء المجتمعات والحفاظ على الدول.

لأن الأخلاقيات دائمًا هي الركن الركين للحفاظ على الدول ورسوخها فى مواجهة التحديات، كما أنها كانت ولا تزال وستظل على مدى الزمن المحدد الأساسي لقوة المجتمعات البشرية، لذا كان استهدافها أحد أهم وسائل هدم الدول أو التأثير السلبي على الشعوب.

يقول أمير الشعراء أحمد شوقي : إنما الأمم الاخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا .

كلمات لخّصت المحددات التي على أثرها تبنى المجتمعات وتقوى فى مواجهة أي محاولات لهدم الشعوب من الداخل.

أعود إلى نقطة مهمة ليست وليدة الفترة الحالية لكنها سبقت ذلك بأكثر من قرن تقريبًا عندما تم استهدف الرموز والشخصيات الوطنية والتنويرية فى المجتمع المصري من أجل تدمير أكبر مشروع ثقافى مصري أو إيقافه.

لقد كان التحرك لاستهداف المشروع ليس وليد الصدفة بل كان نتيجة رؤية وتحليل لقوة المشروع الوطني المصري الذي يحافظ على هوية الدولة المصرية.. تلك الدولة الضاربة جذورها بعمق فى تاريخ الحضارة الإنسانية والحاملة لمشعل النور والحرية، فى الوقت الذي كان العالم فى غياهب الظلمة.

تم تشويه الزعيم أحمد عرابي عقب نفيه واستهدفته بعض الأقلام للتقليل من أهمية الثورة العرابية فى التاريخ الوطني المصري، عندما وصفها البعض «هوجة عرابي» وهي الثورة التي استهدفت بناء جيش وطني قوي بعد أن كان الشراكسة يسيطرون على الجيش، وكذا إنشاء مجلس نواب على النسق الأوروبي وزيادة عدد الجند إلى 18 ألف جندي.

نجحت الثورة لكن يد الغدر والخيانة كانت لها بالمرصاد وحُمِل عرابي وزر الاحتلال الإنجليزي لمصر زورًا وتجاهلت تلك الأقلام خيانة القصر وأعوانه وكذا الدول الأجنبية التي كان يخضع لها القصر.

إنها أكبر عملية تشويه لزعيم وطني كان أحد رموز الحركة الوطنية، وعلى ذات المسلك تم تشويه عدد من الرموز من أصحاب أكبر مشروع تنويري مصري كـ رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وطه حسين وغيرهم.

أعود إلى نقطة عمليات استهداف المجتمعات والشعوب خاصة خلال العقود السبعة الأخيرة، وفى القلب من تلك العملية الدولة المصرية.

عقب ثورة يوليو 1952 تم استهداف النظام المصري فى ذلك الوقت وتشويه الصورة إعلاميًا فى الخارج تحت دعوى انتهاك الحريات والقمع، وقدم المشهد للعالم على غير الحقيقة، ففي الوقت الذي كان يتم فيه الحديث عن انتهاك حقوق الإنسان فى مصر من وجهة النظر الغربية المزعومة كانت مصر تطبق أفضل قواعد العدالة الاجتماعية ومبادئ حقوق الإنسان .

لكن محاولات الاستهداف لم تتوقف فعقب تأميم قناة السويس وقيام كل من فرنسا وبريطانيا و إسرائيل بشن العدوان الثلاثي على مصر مدعومًا بآلة إعلامية غربية تنتج محتوى إعلاميًا سابق التجهيز لتقديم صورة مكذوبة عن الدولة المصرية.

فأنتجت محتوى ضخمًا من الزيف، إلا أن المخطط لتلك المعركة أدرك ما هو أخطر من المواجهة العسكرية التقليدية.. هو عدم قدرة تلك الآلة فى السيطرة على العقل الجمعي للشعب المصري؛ فبدأت عمليات أكثر شراسة وقوة مستهدفة الهوية المصرية وضرب قيم المجتمع والتأثير فيه بأفلام المقاولات وغيرها من المحتوى الإعلامي الذي حرص على تدمير الأخلاقيات.

رغم أن تلك المحاولات وإن كانت قد أثرت قليلاً فى المجتمع المصري إلا أن الشعب الذي يمتلك هذا الإرث الحضاري الضخم كان من الصعب أن ينهار أمام تلك المحاولات.

فانتصر عليها فى أقوى مواجهة خلال فترة حرب أكتوبر.. إلا أن هذا النصر كان محركًا عنيفًا لقوى الشر لزيادة حجم التركيز على المصريين من أجل ضرب الهوية المصرية وإدارة أكبر معركة تستهدف تغييب العقول.

ولأن الحرب الثقافية كانت ولا تزال أحد مسارات الحروب الغربية عقب الحرب العالمية الثانية ومع بداية الحرب الباردة ، شهدت مناهجها تطورًا كبيرًا فى ظل تطور الوسائل المتعددة وظهور وسائل أكثر قدرة على الوصول لصناعة وعي زائف لدى الشعوب.

فالأمر ليس مجرد محتوى يتم إطلاقه على وسيلة مقروءة أو مسموعة أو عبر منصة من المنصات الرقمية أو تليفزيون الواقع، أو السوشيال ميديا .

إنما هي مراحل متتابعة تبدأ ببث محتوى معين إما يستهدف ثوابت قيمية وأخلاقية فى المجتمع فيصبح مجتمعًا بلا أخلاقيات مما يسهل عملية اختراقه وتدميره من الداخل.

أو محتوى يستهدف شخصيات معينة لتشويه صورتها أمام المجتمع، فيتم تحويلها إلى شخصيات غير قادرة على التأثير فى المجتمعات.

أو محتوى يعمل على تسطيح العقول ونشر الفوضى، تحت مزاعم الحرية، فيخترق القانون ويتم تجاوزه وهو ما ترفضه المجتمعات والدول المصدّرة لتلك الأفكار.

ففي الوقت الذي يقذف بشعارات الحرية المطلقة، تجد تلك الدول تمنع تلك الحرية للحفاظ على الدولة، بل تتجاوز ذلك بكثير.

على سبيل المثال، فى الوقت الذي تجد دولاً غربية ومنظمات وهيئات تدعو إلى الحرية المتجاوزة للقانون فى دول أخرى.. تجدها تقيد ذلك بل إن الدول المنادية بالحريات المطلقة مثل نشر الرسوم المسيئة، وغيرها من الأعمال التحريضية ضد الآخر بدعوى الحرية، تحاكم من ينتقد أو يهاجم اليهود فى خطابه على أنه معادٍ للسامية طبقًا للقانون الأمريكي الصادر فى أكتوبر 2004 واعتبر القانون مسلسل «فارس بلا جواد» بطولة الفنان محمد صبحي الذي أذاعه التليفزيون المصري معاديًا للسامية.

إنها الحريات المعلّبة والمنقوصة وفق رؤى أولئك من صناع الفوضى ووكلاء تدمير الشعوب من الداخل.

مع التطور الكبير فى وسائل الاستهداف كان لا بد على الدول أن تكون أكثر يقظة وإدراكًا لحجم المخاطر المستهدفة لشعوبها من أجل تأمين جبهتها الداخلية وكتلتها الصلبة.

الأمر الذي استوجب وضع القوانين والتشريعات لتكون بمثابة تنظيم وحائط صد قوى أمام محاولات طمس الهوية وتدمير الأخلاقيات والقيم داخل المجتمع.

فقد عمدت كل دول العالم إلى ذلك عقب إدراك خطر تلك الحرب وتسرب تأثيرها إلى الأجيال القادمة.

فكانت قوانين تنظيم الإعلام والصحافة على مستوى العالم محددة للمسارات التي لا تمس الحريات المسئولة وتدعم الحفاظ على قيم الشعوب وثوابتها الأخلاقية والدينية، لأن ذلك يساهم فى خلق حالة السلام الاجتماعي داخل المجتمعات.

ومع وجود تلك القوانين المنظمة نجد من يحاولون دائمًا خرقها مستهدفين ضرب النسيج المجتمعي بتدمير الهوية واعتبار القيم المجتمعية والأخلاقيات مجرد كلمات لا علاقة لها بالواقع، من خلال بث محتوى غير أخلاقي على تلك القنوات أو المنصات الرقمية أو صفحات السوشيال ميديا.

ولأن للدول الحق فى فرض سيادتها للحفاظ على شعوبها ضد مثل تلك التوجهات، حرصت مصر من خلال المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام على رصد أي محتوى لا يتلاءم مع القيم المجتمعية والدينية وفق الأكواد التي حددها قانون تنظيم الإعلام، ومواجهة مثل تلك الخروقات، وفق صحيح القانون.

لقد حرصت بعض تلك المنصات على نشر محتوى للأطفال يدعو إلى المثلية الجنسية وهو ما تم مواجهته قانونًا نظرًا لخطورة مثل تلك الأعمال على النشء باستهداف تشويه ثوابته الأخلاقية والدينية.

وخلال الفترة الأخيرة عمدت إحدى المنصات إلى نشر محتوى غير أخلاقي أيضًا، فتم اتخاذ الإجراءات القانونية من قِبل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام تجاه مثل تلك الممارسات نظرًا لمخالفتها للقانون والأكواد المحددة لذلك.

وبحسب البيان الصادر عن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام الأسبوع الماضي، فقد أخطر المجلس جميع المنصات الرقمية والفضائية المشفرة بضرورة الالتزام بالقواعد والمعايير الواجب توافرها فى المحتوى المعروض للمشتركين داخل مصر، وكذا شروط الحصول على تراخيص مزاولة النشاط، وقد بادرت بعض المنصات بالتَقدُّم للمجلس لتوفيق أوضاعها فى سبيل الحصول على الترخيص فيما عزفت منصات أخرى عن استكمال الإجراءات، الأمر الذي دعا المجلس بموجب صلاحياته القانونية إلى التنسيق مع وزارة الاتصالات ممثلة فى الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات(NTRA) ؛ لبحث السبل الفنية لحجب جميع المنصات التي تعمل بدون ترخيص خلال ثلاثة أشهر من تاريخه بناءً على قرار المجلس، كما أخطر المجلس البنك المركزي المصري لإيقاف جميع التحويلات البنكية لحسابات هذه المنصات كاشتراكات، بحسب أن هذه المنصات تعمل فى إطار غير قانوني بالمخالفة للقانون ١٨٠ لسنة ٢٠١٨ الخاص بتنظيم الصحافة والإعلام.

وجاء ذلك على خلفية ما رصده المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام من محتوى لا يتناسب والقيم الدينية للمجتمعين المصري والعربي يُبث عبر منصة برايم فيديو التابعة لشركة أمازون مصر.. وفى ظل الصلاحيات التي كفلها الدستور والقانون للمجلس، قام باستدعاء الممثل القانوني للشركة فى مصر وأبلغه بذلك، وقام الممثل القانوني بالتعهُّد بإزالته بعد العرض على الإدارة العليا فى الشركة، والتي قامت بدورها وعلى الفور وفى أقل من أربع وعشرين ساعة من الإبلاغ بحذف المحتوى محل المخالفة.

إن ما قام به المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام يستهدف الحفاظ على الهوية المصرية وقيم وأخلاقيات المجتمع التي تعد بمثابة خط الدفاع الأول للحفاظ على قوة الجبهة الشعبية أمام عمليات الاستهداف الممنهجة لتدمير الدول.


تشكيل الحكومة الجديدة :

لا شك أن الشارع المصري عقب تكليف الدكتور مدبولي بتشكيل الحكومة الجديدة ينتظر ما تسفر عنه اختيارات رئيس الحكومة المكلف لمن يحملون الحقائب الوزارية خلال المرحلة القادمة، فى ظل تحديات وأزمات يعيشها العالم وتتأثر بها الدولة المصرية.

الأمر الذي يستوجب أن يكون لدى الوزراء القادمين إدراك لأهمية وجود حلول غير تقليدية فى مواجهة الأزمات، وعلينا نحن المصريين أن ندرك أيضًا أن الحكومة السابقة والقادمة تحمل عبء ما تقاعست عن أدائه حكومات عديدة سأتعرض له فى العدد القادم.

أضف تعليق