إسماعيل منتصر يكتب: خواطر حرة جدا.. زمن هيكل ومصطفى أمين!

إسماعيل منتصر يكتب: خواطر حرة جدا.. زمن هيكل ومصطفى أمين!إسماعيل منتصر يكتب: خواطر حرة جدا.. زمن هيكل ومصطفى أمين!

*سلايد رئيسى13-11-2018 | 20:10

أعتبر نفسى من الصحفيين المحظوظين فقد عرفت والتقيت وتعاملت مع ثلاثة من عمالقة الصحافة المصرية.. الأستاذ محمد حسنين هيكل والأستاذ مصطفى أمين والأستاذ أنيس منصور.

والحقيقة أننى تعمدت أن أذكر أسماء العمالقة الثلاثة بهذا الترتيب.. لأننى عرفتهم بنفس الترتيب.. هيكل ثم مصطفى أمين ثم أنيس منصور.

صحيح أننى عملت مع الأستاذ أنيس منصور أكثر من ثمان سنوات اقتربت منه خلالها كثيرًا وجمعتنى به مواقف وأحداث صحفية وإنسانية.. وصحيح أن علاقتى بالأستاذ هيكل والأستاذ مصطفى أمين اقتصرت على لقاءات محدودة عابرة.. لكن الحقيقة أننى تأثرت بالثلاثة بنفس القدر.

عرفت الأستاذ هيكل فى فترة مبكرة من حياتى.. كنت أيامها طالبا بالمرحلة الثانوية.. وكانت صحيفة الأهرام بالنسبة لأسرتى شيئًا أساسيًا فكنا نتنافس، أبى وأشقائى وأنا فى قراءة الصحيفة قبل الآخرين وكان وجود عمى الأستاذ صلاح منتصر محررًا بالأهرام سببًا رئيسيًا فى شغفنا جميعًا بصحيفة الأهرام.

أيامها كان اهتمامى بالصحافة قد بدأ يعبر عن نفسه فوجدت نفسى أتحول من قارئ للصحف إلى هاو للصحافة.. وقرأت مقالات الأستاذ هيكل فسحرتنى وأبهرتنى.

كانت عناوين مقالات الأستاذ هيكل على وجه الخصوص تبهرنى.. أما مقالاته نفسها والتى كان ينشرها تحت عنوان "بصراحة" فكنت أراها نموذجًا للبناء الهندسى المُحكم.

كنت أعيد قراءة مقالاته مرة واثنين وثلاثة.. وكان أكثر ما يلفت نظرى فيها انتقاله من فقرة إلى فقرة ومن فكرة إلى فكرة ليجد القارئ نفسه فى النهاية أمام بناء عبقرى.

واستمر إعجابى بمقالات الأستاذ هيكل وعناوينه حتى بعد التحاقى بالعمل كمحرر تحت التمرين بمجلة أكتوبر.

كان الأستاذ أنيس منصور، الذى كان يشغل منصب رئيس تحرير مجلة أكتوبر، فى ذلك الحين على خلاف واضح مع الأستاذ هيكل.. وعلى الرغم من أن الأستاذ هيكل كان شاهدًا على زواج الأستاذ أنيس منصور، كما روى لى إلا أن حالة من عدم الانسجام وعدم التوافق ربطت بينهما والسبب مواقف الاثنين السياسية.

كان هيكل يعتبر نفسه الصحفى المقرب من الرئيس جمال عبد الناصر وكان أنيس منصور يكره عبد الناصر الذى رفده يومًا من عمله الصحفى.. وفى نفس الوقت كان أنيس منصور أقرب الصحفيين المصريين للرئيس السادات فى الوقت الذى كان هيكل يكره السادات ويحاول التقليل من كفاءته.

المهم أن الاثنين.. هيكل وأنيس كانا على خلاف بسبب السياسة.. ورغم أننى كنت قريبًا من الأستاذ أنيس منصور بُحكم عملى إلا أننى لم أسمح لخلافه مع الأستاذ هيكل بأن ينال من إعجابى بالأستاذ هيكل الذى ظل بالنسبة لى أستاذًا عن بُعد!

كانت المرة الأولى التى ألتقى فيها بالأستاذ هيكل عندما ذهبت بصحبة الأستاذ صلاح منتصر الذى تولى رئاسة تحرير أكتوبر فى فبراير من عام 1985 خلفا للأستاذ أنيس منصور.

كان العالم أيامها مشغولا بغزو صدام حسين للكويت وكان هذا الموضوع هو محور الحوار الصحفى الذى أجراه الأستاذ صلاح منتصر مع الأستاذ هيكل.

لم أجرؤ على النطق بكلمة واحدة وأنا فى حضرة الأستاذ هيكل واكتفيت بالإنصات والقلم.. وعندما كتب الأستاذ صلاح منتصر الحوار وقام بإعداده كلفنى، وكنت أيامها مساعدًا لرئيس التحرير، بمراجعة الحوار مع الأستاذ هيكل.

مرة ثانية وجدت نفسى فى حضرة الأستاذ هيكل لكن هذه المرة بمفردى.

انتهى الأستاذ هيكل من مراجعة الحوار وبدلا من أن أنتهز الفرصة لكى أطرح عليه ما يشغلنى من تساؤلات.. وجدته هو يبادر ويسألنى كأنه يجرى معى حديثًا صحفيًا (!!!) وفهمت بعد ذلك أن الأستاذ هيكل كان شغوفا بمعرفة الطريقة التى تفكر بها الأجيال الجديدة من الصحفيين (!!!)

وعندما تولى الأستاذ رجب البنا رئاسة تحرير مجلة أكتوبر خلفا للأستاذ صلاح منتصر.. قام بدعوة الأستاذ هيكل ضيفا لندوة صحفية يحضرها كل محررى أكتوبر.

امتلأت صالة التحرير عن آخرها وجلسنا نسمع الأستاذ هيكل ونسأله وتدهشنا إجاباته.

كنت أشغل أيامها موقع مدير تحرير المجلة.. وكلّفنى الأستاذ رجب البنا بكتابة الندوة وعقب نشرها استدعانى الأستاذ البنا وأخبرنى أن الأستاذ هيكل أثنى كثيرًا على الطريقة والأسلوب الذى كتبت به الندوة.. وكاد يغمى علىّ من الفرح (!!!)

ولا تزال هذه الندوة بكل تفاصيلها حاضرة فى ذهنى ومنها حكاية أثارت إعجابى طويلا.

قال الأستاذ هيكل إنه كتب يوما مقالا باللغة الإنجليزية وتضمن المقال فقرة عن سيدة لعبت دورًا سياسيًا بارزًا.. وبعد أن نشر المقال تلقى الأستاذ هيكل رسالة من صديق يقول فيها.. على قدر علمى فإن مشرط الجراح فقط هو القادر على تحويل الذكر إلى أنثى.. لكننى اكتشفت بعد قراءة مقالك أن سن قلمك قادر على تحويل الذكر إلى أنثى!

وفهم الأستاذ هيكل الرسالة وعرف أنه أخطأ وتحدث عن الشخصية التى لعبت دورًا سياسيًا بارزًا على اعتبار أنها سيدة بينما هى فى الحقيقة رجل!

وقال الأستاذ هيكل وكأنه أراد أن يعلمنا درسًا لا ننساه.. قال: تعلمت من هذا الخطأ أن أدقق وأستوثق من كل معلومة تصلنى قبل أن أكتبها وأنشرها!

وقبل أن يستأذن فى الانصراف.. وهو التعبير الذى استخدمه للإعلان عن اعتزاله الكتابة.. التقيت به مصادفة فى الطائرة المتجهة من القاهرة إلى الغردقة.. سمعت صوته فالتفتُّ ورائى فرأيته جالسًا فى المقعد الخلفى لمقعدى.. ولم أتردد فى الوقوف والترحاب به.. قلت له يا أستاذ هيكل مقالاتك جميلة رائعة لكن بها عيب خطير.. وبدا الانزعاج واضحا على وجه الأستاذ هيكل قبل أن أقول له: عيب مقالاتك يا أستاذ هيكل أنها تنتهى!.. وانفرجت أساريره بعد أن فهم مقصدى.. فهم أننى أردت أن أقول له إننى أستمتع بمقالاتك كثيرًا ولا يقطع هذه المتعة إلا أن المقال يصل إلى نهايته (!!!)

ويرد الأستاذ هيكل على مجاملتى بطريقته المألوفة.. يضم كفيه ويحنى رأسه بمنتهى التواضع!

ومن العملاق هيكل أنتقل إلى العملاق الثانى مصطفى أمين.

عرفت مصطفى أمين لأول مرة من خلال برنامج تليفزيونى راح يروى من خلاله ذكرياته فى بلاط صاحبة الجلالة.

روى الأستاذ مصطفى أمين حكاية جعلتنى أقرر على الفور الالتحاق تلميذا بمدرسته.

قال الأستاذ مصطفى أمين إن "مصدق" رئيس وزراء إيران فى بداية الخمسينيات قرر تأميم البترول فى بلاده وهو ما تسبب فى وقوع خلاف كبير بينه وبين بريطانيا العظمى.. وقرر مصدق أن يسافر إلى لندن لبحث هذه الأزمة.. وكان مقررًا أن تهبط طائرته فى مطار القاهرة للتزود بالوقود.

ويستكمل الأستاذ مصطفى أمين روايته فيقول إن كل رؤساء تحرير الصحف المصرية وكان مصطفى أمين واحدًا منهم.. ذهبوا إلى مطار القاهرة للقاء مصدق والحديث معه عن مهمته فى إنجلترا.

وصلت الطائرة فى موعدها وهبط منها مصدق لكى يستريح قبل أن تستأنف طائرته رحلتها إلى لندن.. والتقى مصدق برؤساء التحرير لكنه رفض رفضا قاطعا الإدلاء بكلمة واحدة لهم.. وعاد رؤساء التحرير بخفى حنين كما يقول المثل وصدرت الصحف فى اليوم التالى دون أى إشارة إلى زيارة مصدق إلا صحيفة أخبار اليوم التى كان مصطفى أمين يرأس تحريرها فقد صدرت بعنوان بالبنط العريض يقول: "مصدق يصرح: لن أصرح بشىء"!

وتحت هذا العنوان كتب مصطفى أمين حكاية الأزمة مع إيران وسفر مصدق إلى لندن وهبوطه فى مطار القاهرة ورفضه الحديث مع رؤساء التحرير المصريين!

وتعلمت من هذه الحكاية أن الصحفى لا يجب أن يستسلم للفشل وأن يسعى للنجاح بطرق غير مألوفة وغير عادية.

وسمعت الكثير عن الأستاذ مصطفى أمين من زملائى الصحفيين بمؤسسة أخبار اليوم.. سمعت أنه كان فى منتهى السخاء إذا كافأ صحفيًّا على عمل يستحق المكافأة ولكنه أيضا كان شديد الغضب إذا قصَّر الصحفى فى واجبه وكانت له طريقة غريبة فى العقاب.. فيظل يجرى وراء الصحفى المخطئ حتى يلحق به ويضربه بالشلوت (!!!)

تلقى الأستاذ مصطفى أمين اتصالا يفيد بوقوع حادث للسفير الروسى فى القاهرة فوق كوبرى الجلاء عندما كان يسير على قدميه بالقرب من مبنى السفارة الروسية.

استدعى الأستاذ مصطفى أمين محرر الحوادث (ك. أ) وطلب منه أن يذهب مع مصور إلى موقع الحادث.. وعندما وصل المحرر إلى مكان الحادث اكتشف أن السفير لم يتعرض إلا لحادث بسيط انصرف على أثره عائدًا إلى منزله.

خاف الأستاذ (ك. أ) أن يتهمه الأستاذ مصطفى أمين بالفشل فاقترح على المصور أن يلتقط له صورة وهو نائم على الأرض وبزاوية لا يظهر فيها وجهه.. وعاد محرر الحوادث إلى مكتبه وقام المصور بطبع الصور المفبركة.. وقام الأستاذ (ك. أ) بإعطاء الصور للأستاذ مصطفى أمين ومعها تحقيق صحفى كامل عن الحادث الذى لم يراه!

يقول كل الذين حضروا هذه الواقعة إنهم شاهدوا الأستاذ مصطفى أمين يجرى وراء (ك. أ) ليحاول ضربه بالشلوت وهو يقول بصوت عال: جزمة السفير الروسى فيها رقعة يا ابن الـ .. .. (!!!)

التقيت بالأستاذ مصطفى أمين مرتين.. الأولى قبل أن ألتحق بمجلة أكتوبر.. قابلته بعد أن توسط أحد أقاربى لمقابلتى.. كان أملى أن أعمل صحفيا بأخبار اليوم.. وأذكر جيدًا أن الأستاذ مصطفى أمين طلب منى الانتظار بعد مصافحتى حتى ينتهى من كتابة عموده اليومى "فكرة" وجلست أمامه أشاهده وهو يكتب.

لم يرفع الأستاذ مصطفى أمين رأسه مرة واحدة عن المكتب ولم يرتفع سن قلمه مرة واحدة عن الورقة.. وخلال خمسة دقائق انتهى من كتابة عموده فى نفس واحد كما يقولون.

نظر إلىّ الأستاذ مصطفى أمين مبتسما ولما عرف هدفى من مقابلته اعتذر بسرعة وهو يقول: لم يعد لى صلة بأخبار اليوم إلا من خلال هذا المكتب وهذه الورقة.. مشيرًا إلى الورقة التى انتهى من كتابتها للتو.

أما المرة الثانية التى التقيت فيها بالأستاذ مصطفى أمين فكانت فى نفس المكتب عندما ذهبت ومجموعة صغيرة من زملائى محررى أكتوبر لإجراء حديث صحفى معه.

وتشاء الظروف أن يتأجل نشر الحديث ويتوفى الأستاذ مصطفى أمين وتنشر مجلة أكتوبر الحدث باعتباره آخر حديث له قبل رحيله.. وأظن أنه كان الحديث الوحيد الذى أجراه الأستاذ مصطفى أمين ولم يقرأه!

هكذا كان زمن هيكل ومصطفى أمين.. ويتبقى الحديث عن ثالث العمالقة الأستاذ أنيس منصور.. لكن هذه حكاية أخرى!

    أضف تعليق

    وكلاء الخراب

    #
    مقال رئيس التحرير
    محــــــــمد أمين
    إعلان آراك 2