تنعم خبيئة الحضارة الإسلامية بكم كبير من كنوز أفذاذ علماءها، ونحاول عبر كتابة تلك السلسلة إزالة الغبار عن عقول غيَبتها الحملات الصهيونية العلمانية الشرسة على مدار عقود، وأمام حائط التاريخ تتعرى أكاذيب وتدليس المزورين، وتفتح لنا ذاكرة التاريخ نافذتها على حجر كريم من علماء المسلمين وهو ابن يونس المصرى.
وبزغ نور ابن يونس فى سماء مصر، ونشأ فى أحضان أسرة عاشقة للعلم، وتمتد جذور شجرتها فى أعماق صعيد مصر، فقد توطنت مركز صدفا بمحافظة أسيوط، هذا حسب رصد الدكتور مسلم شلتوت، الباحث الفلكى المصرى فى دراسته عن المراصد الفلكية فى العصر الفاطمى، ولذلك لقبوه بالصدفى، ويعد والده عبد الرحمن أحد كبار مؤرخى عصره، وجده يونس تخصص فى علم النجوم، وكانت بيئة حافزة لتعلمه الرياضيات وعلم الفلك، وأجمع المؤرخون أنه أول عالم فلك رصد ظاهرة كسوف الشمس والقمر، وذلك فى عامى 977 و978، واشتهر بأنه أدق علماء الفلك السابقين فى أرصاده الفلكية، ولذا كانت جداول حساباته لمواقع شروق وغروب الشمس أكثر دقة عن غيرها، فضلاً عن حساباته عن فروق التوقيت، وفى النهاية استحق بجداره لقب رائد علم الفلك الحديث.
ودخل فى كنف الخليفة الفاطمى العزيز بالله، وشجعه ورعاه، وبنى له مرصدًا فى جبل المقطم، وجهزه بجميع المستلزمات والأدوات الفلكية، وزيادة فى تفوقه العلمى أخترع رقاص الساعة، أو ما يسمى بالبندول، وبهذا طبقا لآراء الخبراء سبق العالم الإيطالى جاليليو بأكثر من ستمائة عام، وبناء على ابتكاره البندول تطورت آلات حساب الوقت، ويرجع إلى اختراع البندول دور كبير فى دراسة الذبذبات والاهتزازات، وتقديرًا لجهد ابن يونس المصرى فى مجالات الفلك أطلقوا اسمه على إحدى مناطق السطح غير المرئى للقمر، وترجمت أجزاء كتابه الشهير باسم "الزيج الحاكمى" إلى عدة لغات، وضمته إليها مكتبات عالمية، مثل مكتبة أكسفورد وباريس والقاهرة، وتعددت إصداراته العلمية والفكرية منها "الميل" و"الظل" و"تاريخ أعيان مصر".
وبرع فى حساب المثلثات، مما مهد له أن يصبح أول من وضع قانونا لحساب المثلثات الكروية، واستعان به الكثير من علماء الفلك ، ومكن لهم القانون فى حل مسائل طويلة ومعقدة، وهيأ الطريق للوصول إلى علم اللوغاريتمات، وبرغم بدائية الأدوات العلمية فى عصر ابن يونس نجح فى تحديد 40 اقتران كوكبى و30 خسوف قمرى بدقة بالغة، وكانت الدقة سمة رئيسية لدى علماء الحضارة الإسلامية فى شتر مسائلهم العلمية واكتشافاتهم، وهذا وفقا لآراء المنصفين من علماء الغرب.