لا أحد يختار.. هذه مهمة الأقدار.. وقد اختارت لى الأقدار أن أعرف الأستاذ أنيس منصور وأقترب منه وأكون واحدًا من الذين عملوا معه وشاركوه تأسيس مجلة أكتوبر..
لم يكن هناك أى وجود لمجلة أكتوبر فى بداية عام 1976 على خريطة الصحافة المصرية.. أيامها كنت أحفر بأظافرى فى الصخر لكى أعمل كصحفى فى أى مؤسسة صحفية..
كنت أعمل صحفيًا تحت التمرين وبدون مقابل فى صحيفتين مصريتين.. وتشاء الأقدار أن يقابلنى رئيسا المؤسستين ويعرضا علىّ فرصة العمل والتعيين..
كان على أن أختار.. ولأننى أعرف أنها مهمة ثقيلة فقد ذهبت إلى عمى ووالدى الروحى الأستاذ صلاح منتصر لكى يساعدنى بخبرته الصحفية فى الاختيار..
رأيت السعادة على وجه العم عندما أخبرته بما تلقيته من عروض.. فلم يكن يتصور أننى جاد فى العمل كصحفى مع أننى كنت مهندسًا زراعيًا.. ثم أنه سعد أكثر بأننى لم أحاول استخدام اسمه ولا طلبت وساطته طوال فترة تدريبى بالمؤسستين الصحفيتين والتى امتدت لأكثر من عام..
قدم لى العم النصيحة وقدمت له فروض الولاء والطاعة وعدت إلى منزلى سعيدًا باختباره لكننى فى المساء تلقيت منه اتصالاً تليفونيًا كاد معه قلبى أن يسقط فى قدمى!..
طلب منى العم ألا أذهب إلى المؤسسة التى وقع عليها اختياره ولا المؤسسة التانية !..
صرخت منزعجًا.. ليه يا عمى؟!!.. وبعد حوالى نصف دقيقة مرت علىَّ كأنها نصف ساعة قال لى: اذهب غدًا إلى مبنى مؤسسة دارالمعارف على كورنيش النيل وأطلب مقابلة الأستاذ أنيس منصور فقد اتفقت معه أن تذهب غدًا للقائه بعد أن عرفت منه أنه يبحث عن محررين جدد من أجل إصدار مجلة جديدة اسمها 6 أكتوبر..
أنيس منصور “حتة واحدة”!.. قلت لنفسى غير مصدق..
فى الصباح ذهبت للقاء الأستاذ أنيس منصور قبل موعدى بساعة ومعى ظرف كبير ممتلئ بقصاصات الموضوعات التى نشرت باسمى..
استقبلنى الأستاذ أنيس منصور وجلست أمام مكتبه وأنا أرتجف من الخوف.. لم يدر بخاطرى لحظة واحدة أننى سأجلس على نفس المكتب بعد 20 عامًا.. قدمت له المظروف الذى أحمله وجلست أنتظر حكمه!..
ألقى الأستاذ أنيس منصور نظرة سريعة على قصاصاتى أظن أنها لم تستغرق أكثر من نصف دقيقة.. بعدها وقف ووضع يده فوق كتفى وقال: هيا بنا نحضر اجتماع التحرير.. وهكذا وجدت نفسى تلميذا فى مدرسة أنيس منصور..
كان من عادة الأستاذ أنيس منصور أن يعقد اجتماعًا لكل صحفى المجلة صباح يوم الأحد من كل أسبوع.. كان يبدأ اجتماعه بمحاضرة صغيرة يشرح فيها المشهد السياسى بكل تفاصيله ثم يبدأ فيسأل كل صحفى عن الموضوعات التى يريد تنفيذها.. كان يسمع بصبر ثم يسأل ويدقق فى التفاصيل وكان عادة ما يقوم بتعديل ما يطرح من أفكار..
كان يتمتع بذاكرة حديدية فكان يسأل فى كل اجتماع كل واحد منا عن الموضوعات التى كُلّف بها معتمدًا على ذاكرته..
كانت اجتماعات التحرير الأسبوعية دروسًا مجانبة فى الصحافة وكانت مقالاته الأسبوعية والعناوين التى يختارها لغلاف مجلة أكتوبر كل أسبوع دروسًا فى فن الكتابة..
كان الأستاذ أنيس منصور يحاصرنا بتوجيهاته وكأنه أم حنون تحاصر وليدها بالرعاية والعناية..
كنا نطلب مقابلته لنقدم له الموضوعات التى انتهينا من تنفيذها.. وكان يقرأها باهتمام فإذا أعجبته ارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة يعقبها عبارة تعود أن يقولها تعبيرًا عن رضائه.. بارك الله فيك !..
أما إذا لم يعجبه الموضوع لا يوجه أى لوم لصاحبه ولكنه يناقشه ويطالبه بالتعديل أو الإضافة..
بالنسبة لى كان جلوسى أمامه على مكتبه وهو يقرأ ما أقدمه له من موضوعات امتحان صعب أنتظر نتيجته بخوف ولهفة..
قدمت له يومًا موضوعًا عن مشكلة تلوث هواء القاهرة.. بدأته بالحديث عن انتشار الظاهرة والأرقام المُعبِّرة عن خطورتها وأسباب الظاهرة وطرق علاجها.. وأنهيت الموضوع بالكتابة عن بعض حالات المرضى فى المستشفيات الذين يعالجون من آثار تلوث البيئة..
نظر إلىّ الأستاذ أنيس مبتسمًا وقال لى: قلبت الهرم يا أستاذ.
عبّرت عن دهشتى وعدم فهمى بالصمت فمضى يقول: أبدأ بالتخصيص ثم أنتهى بالتعميم.. وأنت يا أستاذ فعلت العكس.. وأضاف وكأنه يريد أن يستوثق من فهمى لما يقول: ابدأ بحالات المرضى فى المستشفيات ثم تكلم بعد ذلك عن الظاهرة كظاهرة..
وعندما ذهبنا يومًا محررو مجلة أكتوبر والأستاذ أنيس منصور إلى قرية ميت أبو الكوم للقاء الرئيس أنور السادات..
انتهى اللقاء وتكلم الرئيس السادات ثم سمح لنا بطرح بعض الأسئلة وبعدها تناولنا غداءنا معه وقبل أن ننصرف عائدين للقاهرة قمنا بالتقاط بعض الصور التذكارية مع الرئيس السادات والأستاذ أنيس منصور..
عدنا إلى مقر المجلة سعداء بالحدث وجلسنا جميعًا فى صالة التحرير نسترجع أحداث اليوم.. وبعد حوالى ساعتين دخل الأستاذ أنيس منصور صالة التحرير وسأل بصوت عال: هل انتهيتم من كتابة مواضيعكم عن لقاء الرئيس؟..
لم يجب أحد واكتفينا بالنظر بعضنا إلى بعض فى خجل.. وعندما صدر العدد الجديد من مجلة أكتوبر فوجئنا بموضوعين يغطيان الحدث.. مقال الأستاذ أنيس الذى يجىء فى الصفحات الأولى وموضوع آخر فى الصفحات الداخلية كتبه الأستاذ أنيس أيضا لكنه لم يوقعه باسمه وإنما كان التوقيع باسم “ واحد من أكتوبر ” !..
وفهمنا الرسالة.. فهمنا أن الأستاذ أنيس منصور كتب الموضوع بالنيابة عنا جميعا.. وعندما جاء موعد اجتماع التحرير الأسبوعى أراد الأستاذ أنيس منصور أن يتأكد من أننا فهمنا رسالته فقال قبل مناقشة المواضيع المقترحة: الصحافة هى المهنة الوحيدة يا أساتذة التى لا يحصل صاحبها على إجازة.. إما أن يكتب أو يقرأ أو يكون مشغولا بالتفكير.
كان أنيس منصور بالنسبة لمعظم محررى مجلة أكتوبر هو الأستاذ والمدرسة.. وكان الاقتراب منه يزيد الاستفادة من الاثنين.. الأستاذ والمدرسة..
كان من عادة الأستاذ أنيس منصور أن يكتب عموده اليومى فى جريدة الأهرام (مواقف) ويراجعه بنفسه قبل أن يرسله لجريدة الأهرام.. وحدث مرة أن انتهى من مراجعة عموده ثم فاجأنى بإعطائى بروفة العمود وطلب منى أن أقرأه وأقول رأيى بصراحة.. وفعلت وبعد أن انتهيت من القراءة قلت له: رائع يا أستاذ أنيس لكن ماذا تقصد بالضبط من الفقرة الأخيرة؟..
ظهر الانزعاج على وجه الأستاذ أنيس وقال بعصبية: هات (!!!).. ثم أمسك بقلمه وقام بشطب الفقرة الأخيرة وأعاد كتابتها من جديد.. وعندما انتهى قال موجهًا كلامه لى: إذا لم تفهم أنت الصحفى ما كتبته فكيف يفهمه القارئ؟!..
وعلى الرغم من انشغاله بمجلة أكتوبر التى كان يرأس تحريرها ومؤسسة دار المعارف التى كان يرأس مجلس إدارتها فى نفس الوقت.. ثم كتبه التى كانت تحقق أعلى أرقام توزيعًا.. ثم بعد ذلك كله قيامه بتنفيذ مهمات سياسية كان الرئيس السادات يكلفه بها.. على الرغم من ذلك كله كان الأستاذ أنيس يتمتع بقدر كبير من الدعابة والمرح..
كنت على وشك مغادرة مبنى المؤسسة وعندما هبط بى المصعد فى الدور الأرضى فوجئت بعد فتح باب المصعد بالأستاذ أنيس مع ضيف لم أتبين ملامحه فأسرعت بالتنحى جانبا لكى أفسح له الطريق هو وضيفه لدخول المصعد.. تمامًا كما تتنحى الزوارق الصغيرة لكى تفسح الطريق للمدمرة الكبيرة.. وعندما وصلت إلى الباب الخارجى فوجئت به ينادينى بصوت عال وهو واقف أمام المصعد فأسرعت بالعودة.. فقال بالإنجليزية متوجها بحديثه للضيف.. زميلى إسماعيل منتصر.. ومددت يدى أصافح الضيف وفوجئت به يقول متوجها بحديثه لى.. عساف ياجورى (أشهر ضابط إسرائيلى تم أسره فى حرب أكتوبر)..انتزعت يدى بسرعة من يد الضابط الإسرائيلى وشعرت وكأننى أمسك سلك كهرباء عريان.. ويضحك الأستاذ أنيس بصوت عال ثم يختفى داخل المصعد هو وضيفه الإسرائيلى.
وحدث يوما أن كلّف الأستاذ أنيس منصور إحدى المحررات بعمل حوار صحفى مع عرّافة إسرائيلية كانت تزور مصر..
انفعلت المحررة بالمهمة وشعرت بأهميتها وطلبت قبل ذهابها للقاء العرّافة مقابلة الأستاذ أنيس منصور أكثر من خمس مرات فى ساعة واحدة.. وفى كل مرة كانت تسأله عن المسموح وغير المسموح فى الحوار الذى ستقوم بإجرائه مع العرّافة الإسرائيلية..
تحمل الأستاذ أنيس بصبر الإزعاج الذى سببته المحررة بتكرار مقابلته وتعطيله عن عمله..
ركبت المحررة السيارة بصحبة مصور صحفى لمقابلة العرّافة لكنها تذكرت فجأة أن السؤال الوحيد الذى لم تسأله للأستاذ أنيس هو عنوان العرّافة الإسرائيلية..
وضع الأستاذ أنيس منصور يده على سماعة التليفون وسأل أحد المحررين الذين تصادف وجودهم فى مكتبه عن عنوان منزله.. ثم قام بإعطائه العنوان للمحررة المزعجة.
ولك أن تتصور بعد ذلك تداعيات ما حدث.. وعندما عادت المحررة طلبت مقابلته وأخبرته أن العنوان الذى أعطاه لها ليس عنوان العرّافة الإسرائيلية ولكنه عنوان زميلها..
وظل الأستاذ أنيس يضحك بعد خروجها من مكتبه لمدة عشر دقائق كاملة!..
هكذا اختارت لى الأقدار طريقى تلميذا فى مدرسة أنيس منصور ثم جعلتنى أخلف مكانه بعد 20 عاما !..
رحم الله الأستاذ وأطال فى عمر مدرسته !