سامحه يا رب.. كل من يرمي قطعة خبز في القمامة وكل من يسرق بضعة جرامات من رغيف العيش .. إنهم في نظرنا يرتكبون جريمة في حق الشعب تتكرر مع كل طلعة شمس وتضيع علي الدولة ملايين الجنيهات، وعجبا لأول بلد في العالم تعرف زراعة القمح ثم تحول فيه القمح بعد ذلك إلي جريمة قومية نشترك فيها جميعًا.
والغريب أننا بلد تمثل الزراعة فيه مكانة عالية ومع ذلك نستهلك من القمح ضعف ما ننتج، ولنا في استهلاك القمح سلوك عجيب وإلا فكيف يمكن أن نستورد 4 ملايين طن من القمح سنويا من أجل رغيف العيش وندفع مقابل ذلك 480 مليون دولار ثم نستخدم هذا الرغيف بعد ذلك علفا للماشية والدواجن؟!
ولا داعي للدهشة.. فهذه حقيقة فلقد أصبح القمح الذي يطلق عليه اسم « الذهب الأصفر » أرخص ثمنا من التبن بل أرخص من «الردة»، إن كيلو الدقيق الفاخر ثمنه 5 قروش وكيلو الردة وصل سعره إلي 9 قروش وقد يكون سببا كافيا لأن يستخدم الفلاح القمح في تغذية مواشيه ودواجنه، وإذا نظرنا من وجهة النظر الاقتصادية فهذا يعتبر كارثة لأنه لا يصح أن نبدد العملة الصعبة التي نوفرها بالكاد لبنود الاستهلاك الآدمي، ومما يزيد الأمور سوءًا أن الفلاح أصبح يفضل زراعة البرسيم علي القمح لأن فدان البرسيم يعطي عائدا قدره 300 جنيه بينما لا يزيد عائد فدان القمح علي 100 جنيه.
وفي تقرير للمجلس القومي للإنتاج والشئون الاقتصادية وجد أن مساحة الأرض الزراعية في مصر حوالي 5.7 مليون فدان وتحت نظام الدورة الزراعية تصل إلي 10.9 مليون فدان، 2.9 مليون فدان من تلك المساحة تزرع برسيمًا بينما القمح لا يزيد نصيبه علي 1.3 مليون فدان.. والغريب أن السياسة الإنتاجية والزراعية في مصر لم تنجح خلال العشرين سنة الأخيرة في زيادة مساحة القمح ، والأغرب أنه في عام 1975 كان هناك مليون و462 ألف فدان مزروعة قمح وفي عام 1977 انخفض هذا الرقم إلي مليون و267 ألف فدان وهذا يعني أن إنتاج القمح الذي كان 2 مليون طن عام 1975 انخفض في العام الماضي إلي 1.7 مليون طن وكيف نعوض هذه الخسارة؟!..
الإجابة طبعًا هي الاستيراد أي مزيد من العملة الصعبة.. وهذا يعتمد علي سعر السوق العالمية التي ترفع أسعارها بجنون، ففي عام 72 حدثت حالة من الجفاف في بعض المناطق الرئيسية لزراعة القمح في العالم ارتفع بعدها السعر من 120 دولارًا إلي 240 دولارًا مرة واحدة.. وتعمدت الولايات المتحدة ترك 15% من المساحة التي تزرع ب القمح بدون زراعة هذا العام لتسيطر علي أسعار القمح عالميًا، ومن المتوقع أن تزداد وارداتنا من القمح خلال العام الحالي إلي 4.5 مليون طن بزيادة 200 ألف طن عن الذي نستورده كل عام ولكن لماذا يقل إنتاجنا من القمح كل عام؟!
يقول الدكتور عبد السلام جمعة، مدير قسم بحوث القمح بمركز البحوث الزراعية ، إن الفلاح لا يهتم كثيرا بخدمة الأرض الزراعية وتجهيزها خاصة قبل زراعة القمح والنتيجة أن الفدان يعطي 1.2 طن في المتوسط بدلا من 2.4 طن كما هو المفروض.
ويضيف الدكتور جمعة أن قسم بحوث القمح قد تمكن في عام 76 من استنباط أصناف جديدة من القمح وتلك الأصناف تتميز بإنتاجها العالي ومقاومتها لمرض «الصدأ» وكذلك ترفع من متوسط إنتاج الفدان من 1.4 طن إلي 2.4 طن وقد تمت بالفعل زراعة 9 آلاف فدان من هذه الأصناف الجديدة أنتجت حوالي 60 ألف أردب لكي تستخدم كتقاوي تكفي لزراعة 120 ألف فدان في العام الحالي في مناطق وجه بحري ومصر الوسطي.. وهل هذا أن إنتاجنا من القمح سيتضاعف؟!
للأسف الشديد لن يحدث هذا لأن تلك الأصناف عند زراعتها تجريبيا أي في حقول التجارب وتحت أنسب الظروف والمعاملات الزراعية تعطي إنتاجا يصل إلي 2.4 طن للفدان الواحد، أما عند زراعتها في الحقل بمعرفة المزارع بطريقته الخاصة فإن إنتاجها لا يتعدي 1.4 طن.. مرة أخري الفلاح وعدم اهتمامه بتطوير أساليب الزراعة لكن هذه المرة جهاز «الإرشاد الزراعي» مسئول هو الآخر عن نقل وتطبيق الإرشادات العلمية إلي الزراعة وإرشادهم لذلك.. إن هذا الإنجاز في الواقع مسئول إلي حد كبير عن تقليل تلك الفجوة الكبيرة بين إنتاج التجربة وإنتاج التطبيق.
ونعود إلي رغيف التموين ، يقول المهندس كمال الفولي، مدير إدارة منتجات الحبوب بوزارة التموين ، إن الدولة تحملت في العام الماضي ما يزيد علي 270 مليون جنيه دعما ل رغيف العيش وصل هذا العام إلي 300 مليون جنيه، والأدهي أن هذا الدعم يزيد سنويا بنسبة 10% وهذه الإحصائية تعني أن رغيف العيش الذي ثمنه 5 مليارات لو لم يكن هناك دعم لتراوح ثمنه بين 16 و17 مليما لكن الدولة لكي تحافظ علي ذلك السعر المنخفض، فإنها تشتري القمح المحلي من المنتج بسعر 8 جنيهات للأردب وتقوم بتسليمه للمطاحن بسعر يصل إلي النصف تقريبا، بالإضافة إلي ما نستورده من الخارج بأسعار عالية وبعملة صعبة والدولة هنا تمنح المخابز ربحا معقولا.
لكن ما نراه يؤكد العكس تماما، فالمواصفات المطلوبة في الرغيف هي أن يكون وزنه 135 جراما وهو ناضج وبقطر لا يقل عن 17 سنتيمترًا ونسبة رطوبة 39% وأن يكون الرغيف كامل الاستدارة كامل الاختمار.. لكن أين هذا من شبه الرغيف الذي نأكله؟!
والمشكلة أن أصحاب المخابز يتلاعبون في إنتاج الخبز، إما بالسرعة في وزنه أو بإنتاجه بمواصفات سيئة وكلتا الحالتين تؤديان إلي سوء استهلاك الرغيف لأن المستهلك يتخلص من جزء كبير من «اللبابة» أو يتخلص من الرغيف كله إذا كان نيئا، ويكفي أن نعرف أن كل جرام نقص في رغيف العيش يحقق لصاحب المخبز ربحا مقداره 40 مليما في جوال الدقيق، فإذا نقص كل رغيف من 20 – 30 جراما وهذا رقم متواضع، فجميع قضايا المخابز بلا استثناء لا يقل المسروق فيها من الرغيف الواحد عن 40 جراما وإذا عرفنا أن المخبز الواحد يستهلك من 30 – 40 جوالا من الدقيق فسنجد أن صاحب المخبز يحقق من 300 إلي 400 جنيه ربحا غير مشروع في الأسبوع الواحد إلي حوالي 1500 جنيه شهريا غير ربحه الأصلي، ورجال مباحث التموين يمرون علي المخابز التي تصل إلي 800 مخبز في القاهرة والجيزة فقط ويضبطون يوميا أعدادًا لا حصر لها من الأرغفة ناقصة الوزن والعقوبة دائما تكون غرامة يدفعها صاحب المخبز ويعرف جيدا من أين يحصّلها مرة أخري، والنتيجة رغيف سيئ المواصفات يجعل المستهلك يتخلص من جزء كبير منه في القمامة ويضيع علي الدولة الدعم الذي تدفعه.
والمستهلك أيضا له نصيب في هذه الخسارة، وكما تقول السيدة نضار نجاتي، مدير قسم الإرشاد الاستهلاكي بوزارة التموين، إننا نستهلك الخبز بأسوأ طريقة ممكنة، فموائد الطعام المصرية لا تخلو عند نهايتها من بقايا قطع الخبز التي لا تستخدمها مرة أخري، ولو تصورنا أن كل عشرة أفراد منا يلقون برغيف خبز واحد في اليوم - وهو ما يحدث بالفعل – فإننا نلقي في القمامة كل يوم 4 ملايين رغيف، فلو أن ربة البيت قامت بتقسيم الخبز إلي أربعة أقسام لأمكن إنقاذ 40% من هذا الخبز الضائع.
وفي النهاية نتساءل: إلي أي مدى يمكن أن تتحمل ميزانية الدولة هذه الأعباء؟! وهل من المعقول أن تشاركنا الماشية والدواجن وصفائح القمامة في رغيف العيش الذي تدفع له الدولة 300 مليون جنيه سنويا؟!
نشر بمجلة أكتوبر في يوليو 1978م – 1398هـ