رأت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أنه لم تكن هناك أي قضية في السياسة الخارجية الأمريكية مثيرة للانقسام بين الديمقراطيين مثل تعامل الرئيس الأمريكي جو بايدن مع الحرب بين إسرائيل وحركة حماس ، معتبرة أنه بصفتها المرشحة المفترضة للرئاسة عن الحزب الديمقراطي بعد تنحي بايدن ، فقد أتيحت لنائبة الرئيس كامالا هاريس الفرصة لانتهاج مسار مختلف، وبالتالي إعادة تنشيط بعض الدوائر الانتخابية الديمقراطية الرئيسية التي أغضبها الدعم غير المشروط تقريبا من بايدن للتدمير العشوائي الذي تشنه إسرائيل في قطاع غزة.
وذكرت المجلة أن الناس سوف يتذكرون بايدن باعتباره رئيسا ناجحا بشكل غير عادي فيما يتعلق بالسياسة الداخلية، حيث هناك قائمة طويلة من الإنجازات، من بينها: قيادة الولايات المتحدة خلال جائحة كوفيد-19، وتوفير ملايين الوظائف الجديدة، وتطبيق قوانين مكافحة الاحتكار بقوة ولأول مرة منذ عقود، وزيادة الاستثمارات في الطاقة النظيفة والتصنيع الأمريكي بشكل كبير.
غير أن السياسة الخارجية التي ينتهجها بايدن –وفقا للمجلة- أكثر تعقيدا، وإن كانت قد حققت بعض الانتصارات، حيث انفصل بايدن عن الاتجاه الليبرالي الجديد الذي أدي إلي تضرر الصناعة الأمريكية، وغذي الفساد الدولي والقومية العرقية، مع تحركه (بايدن) في مسار نحو نظام اقتصادي عالمي أكثر عدالة واستدامة.
كما أن جهود إدارته بشأن الانتخابات الرئاسية البرازيلية في أكتوبر 2022، والتي ربما ساعدت علي تجنب انقلاب عسكري، تشكل انتصارا لحماية الديمقراطية في واحدة من أهم القوي الصاعدة في العالم. وقد أظهر حشده للحلفاء لدعم دفاع أوكرانيا ضد الغزو الروسي الكامل، مهارة دبلوماسية وانضباطا عسكريا.
واعتبرت المجلة الأمريكية أن نهج بايدن العالمي بدا في بعض الأحيان مصابا بالفصام. فمن ناحية، أدرك أن الولايات المتحدة، مع تراجع حصتها النسبية من القوة العالمية ، تحتاج إلي إصلاح نهجها الدولي، ودعم الشراكات والتحالفات المهمة، وتقديم نداء أكثر فعالية إلي البلدان في الجنوب العالمي. ولكن من ناحية أخري، لا يزال بايدن غير راغب في الانفصال عن النهج الأمريكي الذي ينظر للهيمنة العسكرية باعتبارها الشرط الضروري للاستقرار العالمي، علي الرغم من استنزافها لموارد البلاد وتآكل سياستها، لاسيما وأن هذا النهج يعامل الولايات المتحدة وشركاؤها علي أنهم فوق النظام والقواعد التي تصر واشنطن علي أن يتبعها الآخرون، ويفرض تكلفة هائلة في الأرواح ومصداقية الولايات المتحدة.
وأشارت "فورين بوليسي" إلي أن أكثر الملفات التي تبرز التناقض الأمريكي والمعايير المزدوجة هو تعامل الإدارة الحالية مع الحرب في غزة ، حيث أذعن بايدن بشكل أساسي لحكومة إسرائيلية يمينية متطرفة غير شعبية حتي مع ارتكابها لانتهاكات صارخة ومنهجية للقانون الدولي وحقوق الإنسان. وتتجسد المعايير المزدوجة الصارخة للولايات المتحدة تجاه العقاب الجماعي ومعاناة المدنيين عندما تقوم روسيا بأي انتهاكات مقابل ما تقوم به إسرائيل .
وأوضحت المجلة الأمريكية أن التأثيرات السلبية لمواقف الولايات المتحدة من حرب غزة تجلت في استطلاعات الرأي التي جرت علي مدي أشهر، حيث أظهرت أن سياسة بايدن تجاه غزة كانت تلحق ضررا خطيرا بفرص الديمقراطيين في انتخابات الرئاسة في نوفمبر المقبل. ووفقا لتقرير نشرته مؤسسة "سينشري" البحثية الأمريكية في وقت سابق من هذا الشهر، فإن "العديد من الدوائر الانتخابية الأساسية -بما في ذلك المستقلون، والناخبون المحتملون في الولايات المتأرجحة، ونشطاء الحزب الديمقراطي- غاضبة من دعم بايدن غير المشروط للهجوم الإسرائيلي علي غزة . وعلي الصعيد الوطني، يقول ما يقرب من 4 من كل 10 ناخبين (38 في المائة) إنهم أقل ميلا للتصويت للرئيس بايدن بسبب تعامله مع الحرب في غزة".
كما أرسلت 7 نقابات عمالية رئيسية في 23 يوليو الجاري، رسالة مشتركة إلي بايدن تدعوه إلي "وقف جميع المساعدات العسكرية ل إسرائيل علي الفور".
وذكرت "فورين بوليسي" أنه بينما لا يتوقع أحد أن تنأي هاريس بنفسها بشكل كبير عن بايدن ، إلا أن هناك خطوات يمكنها اتخاذها لإظهار أنها تتحدث باسم الحزب الديمقراطي اليوم وليس قبل 40 عاما، حيث يمكنها أن تعلن أنها كرئيسة، ستعلق علي الفور المساعدات العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة والتي تُستخدم في انتهاك القانون الأمريكي. ويمكنها كذلك أن توضح علنا أنها تتفق مع تقييم عدد لا يحصي من الإسرائيليين - بما في ذلك مشرعون معارضون وكبار المسؤولين الأمنيين الحاليين- بأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يماطل في التوصل لاتفاق لإطلاق سراح الرهائن وجهود وقف إطلاق النار من أجل التشبث بالسلطة.
كما يمكن لهاريس أن ترفض الإدعاءات التي لا أساس لها من الصحة والمثيرة للجدل بأن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وهي أكبر وأهم وكالة إغاثة في غزة، هي "واجهة لحماس"، وتعلن أنها ستعمل علي استئناف تمويل الأونروا في أقرب وقت ممكن من الناحية القانونية. وبذلك، فإنها ستنضم إلي شركاء الولايات المتحدة ــ مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا ــ الذين استأنفوا بالفعل مساهماتهم.
وينبغي ل كامالا هاريس أيضا، وردا علي رفض نتنياهو المتكرر لأي احتمال لإقامة دولة فلسطينية، بما في ذلك تمرير حكومته قبل أيام في الكنيست لقرار غير مسبوق يستبعد أي دولة فلسطينية غرب نهر الأردن، أن تعلن بوضوح أنه في حين أن التفاصيل النهائية للدولة الفلسطينية هي مسألة متروكة للمفاوضات، فإن حق الفلسطينيين في الدولة، مثل حق الإسرائيليين، غير قابل للتفاوض.
وتؤكد "فورين بوليسي" أن انتخابات الرئاسة الأمريكية المقررة في نوفمبر المقبل تشكل فرصة لتقديم اختلاف حقيقي في السياسة الخارجية. وعلي الرغم من توصيف خبراء سياسيين للمرشح الجمهوري دونالد ترمب ونائبه جي دي فانس بأنهما ينتهجان "الانعزالية"، إلا أن الواقع يشير إلي أنهما لا يقدمان سياسة خارجية انعزالية، بل سياسة أحادية الجانب وعسكرية، حيث تتمتع الولايات المتحدة وشركاؤها بحرية استخدام العنف دون قيود مرتبطة بالمعايير الدولية التي تصر واشنطن علي ضرورة اتباعها من قبل الحكومات التي لا تشتري أسلحتها.
ووفقا للمجلة، من المؤسف أن السياسة الأمريكية تجاه الحرب في غزة (والتي ينتهجها بايدن) تعكس نفس النهج، وتعزز نوع التمييز المنهجي الذي حاربته حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، والتي تنحدر منها نائبة الرئيس. لذا، فإن هاريس تتمتع حاليا بفرصة ذهبية لإنهاء هذا التناقض، وتقديم رؤية للسياسة الخارجية الأمريكية تتمسك بمجموعة عالمية من القواعد والمعايير، بدلا من قواعد ومعايير مختلفة للشركاء والخصوم. وبذلك، فإن هاريس ستدافع بجرأة وبشكل صحيح عن نهج من شأنه أن يمكن الجميع في نهاية المطاف من العيش في أمن وازدهار وكرامة.