لا ينضب جراب حضارتنا الغراء من عناقيد نجوم السماء، وجرابها منسوج من نور الإسلام، ويفيض علينا من وقت لآخر بكنوز تثري البشرية بحسن الخلق وعبقرية التحضر والعزة، ويلمع من جراب الحضارة الإسلامية بريق ابن العوام ، الذى يعد أحد أبرز علماء الأندلس، واسمه أبو زكريا يحيى بن محمد بن العوام.
ولم يتمتع بزهو ذروة الحضارة الإسلامية ، ونشأ فى الحقبة الأخيرة من حكم الأندلس وسط صراعات وحروب، وغض الطرف عنها واشتغل بالدراسة والبحث، ومثل بقية علماء حضارة النور حفظ القرآن الكريم وتعلم أصول الفقه.
ولأنه ابن بيئة علمية تمتلك أراضي شاسعة على نهر مدينة أشبيلية تفرد عن بقية علماء الأمة بعشق الفلاحة، وجعلته الفلاحة حكيما ينطق كلمات تكتب بماء الذهب، ونذكر واحدة منها قائلا فيها: "لا يعرف أحد قيمة السلام أكثر ممن وضع بذرة فى الأرض. وظل يرقب البذرة وهى تنبت".
وكان شعلة لا تهدأ عن البحث ودراسة خبايا الفلاحة، وابن العوام من أبناء مدينة أشبيلية عروس الأندلس، وتمكن العرب من تحويل أرضها القاحلة إلى أراض تنعم بالخضرة، وأصبح ابن العوام عالما بالفلاحة ومهندسا للري وطبيبا للنباتات والحيوانات.
وعكف على دراسة كتب القدماء عن الزراعة، وهضم معارفها وتجاربها. وفى هذا الصدد قال إنه قرأ الكثير وزرع أكثر، وشعرت بالخوف على ما أعلمه، وقررت ألا أكتب شيئا إلا إذا جربته بنفسي، ثم شرع فى إنتاج أول مؤلف له، وضع له عنوان "كتاب الفلاحة"، واستعرض فيه طرق تربية الحيوانات والطيور وأنواع غذائها وكيفية علاجها، وتصف الباحثة الإسبانية "جوليا كاراباثا" كتابه بالموسوعة الشاملة لنظريات الزراعة وتطبيقاتها، وتستطرد فى حديثها بقولها: إن علمه تجاوز ما بعد العصور الوسطى.
ويعلن خبراء زراعة ومؤرخون عن مؤلف آخر لابن العوام باسم "الفلاحة الأندلسية"، وتعتبره فرنسا وإسبانيا مرجعا زراعيا، وظل تدريسه فى جامعات البلدين حتى القرن الثامن عشر، وينشد هؤلاء الخبراء والباحثون تدريسه فى الجامعات العربية، وذلك بفضل اعتماده على النهج العلمى التجريبى.
وكان يعتقد أن الفلاحة المرادف لإعمار الأرض التي خلق الله البشر من أجلها، ووصفها بعلم إعمار الأرض، ولذا عمل فلاحا بالنهار وطبيبا وعشابا بالليل. وقام بتصنيف الزهور والبذور والنباتات حسب أشكالها وألوانها وجذورها، وتتخطى عبقرية ابن العوام عصره ويبتكر طريقة الري بالتنقيط، وحديثا يغفل عنه شعوب كثيرة. ويعتبر أسلوب الري التنقيط اكتشافا غربيا، وقد سبقهم ابن العوام بعدة قرون، وأوصى فى ختام حياته بقوله: عمّروا الأرض. فإن تعميرها الغاية الحقيقية.. عمّروها ولو دمرها كل من كان حولكم.. وكونوا رحماء على الأرض.