منذ حوالى عامين تقريبا، كتبت مقالا نشر فى عدد من المواقع الإخبارية، بعنوان "لجنة لتنسيقية القوانين"، وذلك على غرار العديد من اللجان التنسيقية ، واقترحت فى هذا المقال تأسيس لجنة محايدة ومستقلة تعاون اللجنة التشريعية بمجلس النواب، فى صياغة وإعداد النصوص المقترحة للقوانين سواء المقترحة من الحكومة أو أعضاء البرلمان ، على أن تشكل هذه اللجنة من أساتذة وفقهاء القانون، ومن عدد من السادة المحامين المتمرسين مهنيا، وأن يكون الهدف الأساسى من هذه اللجنة هو التنسيق بين نصوص القانون المقترح من ناحية، ومن ناحية أخرى بينها وبين القوانين الأخرى، حتى لا يحدث تعارضا بينها وبين الدستور أو القوانين المعمول بها، ورغم نشر هذا المقترح إلا أنه لا حياة لمن تنادي، حتى نقابة المحامين ذاتها تجاهلته ولم تعره اهتماما.
والآن يتحدث الجميع عن صياغة جديدة لـ قانون الإجراءات الجنائية ، ويتم مناقشته فى إحدى اللجان الفرعية بمجلس منذ أكثر من عام، ليخرج للنور بمواد وصياغة هى الأغرب والأعجب منذ قانون "حمورابى" حتى الآن.
قانون الإجراءات الجنائية ، حامي مشروعية الإجراءات والمحاكمات الجنائية، لطالما نادينا بتعديله لإتاحة المزيد من الحريات وتقليص دور مأمور الضبط القضائي، ومدة الحبس الاحتياطى وغيرها من الأمور التى أثبت الواقع العملي ضرورة النظر إليها فى ظل التطور الهائل للذكاء الاصطناعي، واتساع نطاق الجريمة الإلكترونية.
إلا أننا فوجئنا بنصوص قانونية مقترحة تعود بنا للخلف، وتقلص من دور الدفاع وتعطي مزيدا من السلطات لمأموري الضبط وسلطة التحقيق والمحاكمة، وبمعنى آخر تلاشت فى هذا القانون المقترح قاعدة "المتهم برئ حتى تثبت إدانته"، لتحل محلها "المتهم مدان حتى تثبت براءته".
وأصبحت سلطة التحقيق هى الآمر الناهي فى سير التحقيقات، تمنح وتمنع، وأصبح لها السماح لدفاع المتهم بالحديث أو منعه من ذلك بدون إبداء الأسباب، ولها أيضا السماح له بالاطلاع على الأوراق أو عدم السماح، والأخطر من ذلك اتساع اختصاصات مأموري الضبط وأصبح لهم اختصاص أصيل فى استجواب المتهم فى قضايا الجنح، والأخطر من ذلك والذي يؤكد لنا وللجميع أن التضييق من نطاق حق الدفاع فى ذلك القانون، يهدف فى الأساس التربص بالمحامين، وذلك لما شمله هذا القانون من اتساع مفهوم جرائم الجلسات حتى أصبح "التشويش"، بمفهومه الواسع، جريمة من جرائم الجلسات.
وغيرها من الخروقات التى أحدثها هذا القانون فى ثوب المشروعية إذا ما تم العمل بها، ولو يتسع المقام لحصرناها وأحصيناها عددا، ورغم ذلك - وأعتقد وجموع المحامين يتفقون معي- نوافق على تلك المقترحات رغم إجحافها بحق الدفاع والمشروعية، إذا شمل القانون نصوصا تسمح بتسجيل جلسات المحاكمة "صوت وصورة"، حتى تكون تلك التسجيلات سيفا على رقاب الجميع دفاع وقضاة وجمهورا ومتهمين، وكذلك الموافقة على تصوير وتسجيل إجراءات التحقيق والقبض والتفتيش والاستعانة بكاميرات الأقسام متى لزم ذلك، أم أن الحق دائما مع منظومة المحاكمة بأسرها ماعدا الدفاع، والمتتبع لنصوص القانون المقترح وما انتهى إليه يقول وبكل تأكيد: إن هذا القانون شرع خصيصا لتهميش دور المحامي وكسر شوكته وإخراجه رويدا رويدا من منظومة العدالة، وبدلا من أن يكون شريكا فى تحقيق العدالة كما نص الدستور، يصبح حارسا على باب المحكمة يسمح له بالدخول أو لا يسمح له.
ما يحدث تنكيلا بالمحاماة والمحامي وبحق الدفاع، ولا تجده في أي مكان آخر، مصر يا سادة من علمت الدنيا بأسرها القانون والتشريع والحضارة، ولا يجب أن يأتي عليها زمان يشرع فيها قوانين تأتي على حق الدفاع، القانون ياسادة يجب ألا يحكمه الهوى، ولا يعبر عن وجهة رأى أشخاص، القانون قواعد عامة مجردة تحكم لأزمان عديدة وتتحكم فى مصائر ورقاب وأرواح بشر.
التشريع ليس بالأمر الهين، فإنه أمرا لو تعلمون عظيم، ذلك أناشد القيادة السياسية التى لا تدخر جهدا فى تحقيق المزيد من الحريات والأمن الإجرائي للمحاكمات، أن تعيد النظر فى نصوص هذا القانون، وأن تكون هناك مساحة لسماع كل آراء المهتمين بالحقل القانوني والتشريعي، ليتجنب الجميع كارثة قبل أن تقع.
ولا يفوتنى فى هذا المقام أن ألقى باللوم على نقابة المحامين، التي تتباكى الآن على اللبن المسكوب، وأقول لمجلسكم الموقر: أنتم من فرطتم وهمشتم دور النقابة، وباعدتم بينها وبين المشاركة السياسية والمجتمعية.
المحامون كانوا ولازالوا، مشاعل الحركات الوطنية، ومنارة حركات التحرر وضمير الأمة المتقد، لكنكم أخذتوها بصراعاتكم وتناحركم على المقاعد، إلى نفق مظلم وليل طويل يعلم الله متى يبزغ فجره.
وأقول للجمعية العمومية وجموع المحامين لا تعميكم مصالحكم ولا عطايا زهيدة فى اختيار نقبائكم، نقابة المحامين تشرف بأبنائها وبين جداولها العديد من الفقهاء وأساتذة القانون والمثقفين والشخصيات العامة والمحامين المهنيين المتمرسين، هؤلاء خير من يمثل النقابة، بأيديكم تعود نقابة المحامين إلى عصرها الذهبى وتجد من يحميها ويحمي حق الدفاع.