«السترات الصفراء» تضرب أعماق فرنسا
«السترات الصفراء» تضرب أعماق فرنسا
كتبت: داليا كامل
سكان المدن والقرى الصغيرة يعانون الفقر المدقع
نيويورك تايمز: احتجاجات «السترات الصفراء» تنفيس غير عادى من العمال والفقراء عن الغضب والاستياء
التايمز البريطانية: الاحتجاجات التي بدأت ضد ارتفاع أسعار الوقود تحولت إلى خيبة أمل من رئاسة ماكرون
مع أن احتجاجات «السترات الصفراء» اتخذت من باريس مركزا لها، خاصة شارع الشانزلزيه، باعتباره أشهر شوارع العاصمة الفرنسية، ولاقترابه من قصر الإليزيه، مقر الرئاسة الفرنسية، إلا أن الغضب الذي يعبر عنه المتظاهرون بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، يضرب بجذوره في أعماق الدولة الفرنسية بأكملها.. هذا ما ألقت عليه الضوء صحيفة «نيويورك تايمز» فى تحقيق نشرته مؤخرا فى إطار الاضطرابات التي تشهدها فرنسا، استعرضت الصحيفة الأمريكية من خلاله المصاعب المعيشية التي يواجهها المواطنون الفرنسيون، خاصة في المدن والقرى الصغيرة البعيدة عن العاصمة باريس.
وأكدت "نيويورك تايمز" أن احتجاجات "السترات الصفراء" التى تشهدها فرنسا، خاصة عاصمتها باريس منذ 17 نوفمبر الماضى، تمثل تنفيسا غير عادى عن الغضب والاستياء من قبل العمال والفقراء فى فرنسا، مشيرة إلى أن المظاهرات بدأت للاحتجاج على الضريبة التى فرضها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون على الوقود وسرعان ما تحولت إلى غضب عام بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة.
وذكرت الصحيفة أن المتظاهرين يسخرون من ماكرون باعتباره رئيسًا للأغنياء ويقولون إنه يحاول تنفيذ برنامجه الإصلاحى على حسابهم حيث لا يصغى إلى مخاوفهم ومتاعبهم. وتابعت الصحيفة أن حركة "السترات الصفراء" نبعت فعليا من المدن الصغيرة مثل غويريت التى تعتبر مركزا إداريا وسط فرنسا يضم 13 ألف شخص، حيث تقع فى واحدة من أفقر الإدارات فى فرنسا.
ففى مثل هذه الأماكن، حسبما تقول الصحيفة، ينخر الخوف قلب الأسر: ماذا أفعل عندما ينفد الراتب فى اليوم العشرين من الشهر؟ ماذا أضع فى الثلاجة وليس هناك مال متبقى فى الرصيد ومن أين أدفع فاتورة الكهرباء؟ أى وجبة يجب أن أتغاضى عنها اليوم؟...".
وأثناء جولة بأحد المتاجر ببلدة غويريت نهاية الشهر الماضى، التقت الصحيفة بأحد المواطنين الفرنسيين ويدعى "فلوريان دو" حيث كان من الملفت للنظر أنه لا يوجد بعربته للتسوق سوى لفافة من النقانق (السجق) تساوى مبلغ 6 دولارات، وهو ما فسره قائلا إن "راتبه وراتب زوجته نفدا منذ عشرة أيام"، وأوضح "دو" أن راتبه الإجمالى البالغ 1300 يورو، أى حوالى 1475 دولارًا، يتبخر على الفور فى الفواتير، حيث لا يتبقى سوى القليل بعد تسديد قيمة الضرائب المرتفعة والخدمات المرتفعة التكلفة مثل الكهرباء.
وأضاف أن الأمر أصبح تحديا شهريا كيف يقضى تلك الأيام بعد نفاد المال معه وحتى الحصول على راتبه من عمله بأحد المستودعات.
وتقول "نيويورك تايمز" إن الشىء نفسه ينطبق على كثيرين آخرين من جيران "دو"، وهو ما دفعهم للمشاركة فى مظاهرات "السترات الصفراء"، فمثلا "لايتيتيا ديبورتو" وهى ممرضة تتقاضى 1800 يورو شهريا، لا يوجد بثلاجتها سوى مجموعة من اللحوم المجمدة التى تحصل عليها كهدية مرتين فى السنة من والدها المزارع، وتضيف أن راتبها وراتب زوجها أوليفر الذى يعمل فى محل لبيع النظارات ويتقاضى 1500 يورو شهريا، سرعان ما ينفدان بعد دفع الفواتير.
ويروى زوجها أوليفر ديبورتو بأسى أن والديه بعد عمر من العمل، يعانيان حاليا من الفقر المدقع، ما أجبر والده على العيش فى دار للمسنين، بينما تضطر والدته إلى قبول وجبات الطعام من الجهات الخيرية.
أما "جويل ديكو" فيستخدم للتدفئة فى مثل هذه الليالى الباردة الخشب الذى يقطعه بنفسه لأنه لا يستطيع تحمل تكاليف الغاز.
ووفقا لـ "فابريس جيراردين"، البالغ من العمر 46 عاما، والذى كان يعمل فى صناعة السجاد سابقا ويعتنى الآن بالحيوانات الأليفة الخاصة بالآخرين كمصدر للرزق، فإنهم يعيشون فى قلق حيث يقول: "كل شهر، فى نهاية الشهر، نتساءل: هل سيكون هناك ما يكفى من المال للطعام؟".
وأضاف قائلا: "بمجرد انتهائنا من دفع جميع فواتيرنا، لا تتبقى أى أموال".
نفس الشكوى تقريبا رددتها "إيلودى مارتون"، وهى أم لأربعة أطفال، حيث بدأت حديثها قائلة: "نحن لا نستطيع المواصلة إلى نهاية الشهر.. لا يوجد معى أموال متبقية سوى عشرة يورو.. ومن حسن الحظ أنه يوجد لدينا بعض الدواجن فى المنزل- دجاج وبط- ونتركها دائما لنهاية الشهر".
فى حين قاطعها زوجها صائحا: "لقد سئمنا.. نحن غاضبون"، وهو يعمل كمتعهد لنقل الأسمنت بعقد مؤقت بقيمة 1200 يورو.
لذلك، حسبما توضح "نيويورك تايمز"، كانت خطط ماكرون لرفع الضريبة على الوقود، "القشة التى قصمت ظهر البعير بالنسبة للكثيرين.. كانت الشرارة التى فجرت فى النهاية غضبا عارما كان متراكما منذ سنوات".
وتقول الصحيفة إن متظاهرى السترات الصفراء عند حواجز الطرق بمدخل المدينة، كانوا يضمون سائقى الشاحنات وسائقى الحافلات المدرسية وممرضات وكهربائيين عاطلين عن العمل وربات بيوت وموظفى خدمة مدنية وعمال بناء، ممن يعيشون على المعونات.
وكان يوجد بينهم "فلوريان دو" وجيرانه، وللتعبير عن احتجاجهم، كان "دو" والمتظاهرون الآخرون يقضون الليل فى المطر والبرد والطين تحت خيام من المشمع، وقد كتبوا على إحدى الخيام "إليزيه الشعب" للسخرية من قصر الإليزيه، بينما يغنى أحدهم "ماكرون، هو مع الرؤساء، ماكرون، هو ضد الشعب".
ويقول "دو" إنه انضم للحركة منذ البداية، وإن هدفه هو "استعادة أولويات الدولة، قيم الحرية والمساواة والإخاء، والضريبة على الوقود هى التى فجرت كل ذلك".
ولكن المتظاهرين فى غويريت كانوا يدركون أن صيحاتهم تعتبر ضعيفة نظرا للمسافة الطويلة بينهم وبين السلطة الحقيقية فى باريس، وذلك هو ما دفعهم لنقل احتجاجاتهم إلى هناك.
ويقول "يوان ديكو"، وهو كهربائى عاطل عن العمل، فى الثلاثينيات من عمره، إنه لم يشارك من قبل فى أى مظاهرات سياسية، "لكننا قلنا هذا يكفى بما فيه الكفاية". وأضاف: "إنهم لا يعرفون حتى كيف نعيش برواتبنا الصغيرة، نحن بشر أيضا"، ويذكر ديكو أنه يعيش من بيع الخضراوات ويتلقى مساعدة من والده المزارع.
وفى هذا السياق، وتحت عنوان "ايمانويل ماكرون يواجه أكبر تحد خلال رئاسته"، قالت صحيفة التايمز البريطانية إن الاحتجاجات التى بدأت ضد ارتفاع أسعار الوقود تحولت إلى خيبة أمل أوسع من رئاسته إذ هبطت شعبية ماكرون إلى أقل من 30 فى المئة وهو ما يشير جزئيا إلى ارتكابه لأخطاء سياسية.
وضربت الصحيفة مثالا بقرار خفض الضرائب على أرباح الأسهم والمدفوعات الاجتماعية للشركات والتى نظر له من الناحية الاقتصادية كخطوة لتحفيز الاستثمار وتشجيع التوظيف ولكن عدم مصاحبة ذلك لتخفيضات مماثلة على الضرائب المفروضة على العمال والفقراء روج لفكرة كونه "رئيسا للأغنياء".
وساهم فى ذلك أيضا، وفقا للصحيفة، لهجته التى تبدو متعالية وبعيدة عن عامة الشعب ومشكلاتهم.
[gallery type="slideshow" size="full" ids="211015"]