اتفق الناس علي أن الطماطم مجنونة والسبب هو الارتفاع والانخفاض المفاجئ في أسعارها.. فهل أصبح الذهب أكثر جنونًا من " المجنونة " ؟
الحقيقة أن هناك عوامل عديدة وراء انخفاض وارتفاع أسعار الذهب .. ولكن الذي حدث منذ عامين أن صندوق النقد الدولي أصدر قرارًا كان له أكبر الأثر في انخفاض أسعار الذهب ، فقد قرر الصندوق أن يعرض سدس رصيده من الذهب للبيع في السوق الحرة الدولية وهذه النسبة تساوي 125 مليون أوقية ذهب.. وكان مجرد صدور هذا القرار كفيلا بهبوط أسعار الذهب في الأسواق الدولية والمحلية، حيث إن الذهب سوقه حر تمامًا تحكمه قوانين العرض والطلب، أما عن الأسباب التي أدت إلي صدور هذا القرار فقد كانت من وجهة نظر صندوق النقد الدولي أنه يمكن الاستفادة من حصيلة الفرق بين السعر الرسمي لأوقية الذهب - 42 دولارا - والسعر الذي سيباع به - 128 دولارا - بحيث تخصص هذه الحصيلة لإنشاء صندوق خاص لمساعدة الدول النامية، خاصة أن الذهب قد بدأ يفقد وظيفته كغطاء نقدي.. ولكن كيف فقد الذهب هذه الوظيفة التقليدية؟.. إن التطور التاريخي لدور الذهب في النظام النقدي يرجع إلي بداية القرن الـ 19، حيث كانت هناك حرية مطلقة لتحويل الجنيه الإنجليزي إلي ذهب بمعدل ثابت.. إلا أن نشوب الحرب العالمية الأولي وضع نهاية لهذه الفترة التي ساعد علي ازدهارها الاكتشافات المتوالية لمناجم الذهب وكذلك الزيادة في إنتاجه بما يتماشي مع الزيادة في حجم المعاملات المالية.
ولذلك فعندما بدأ إنتاج الذهب يتقلص بالإضافة إلي توقف الاكتشافات تقريبا علي حين اتسع نطاق المعاملات النقدية الدولية، فإن معظم الدول قد توقفت عن التعامل بالذهب.
مجنون.. مجنون !
ولكن ماذا حدث في السوق المحلية؟.. لقد شعر الكثيرون ممن يمتلكون الحلي الذهبية أن الأسعار قد بدأت في الانخفاض ولذلك اندفعوا يتخلصون مما لديهم مما أدي إلي زيادة المعروض منه في السوق.. والنتيجة المنطقية انخفاض السعر نتيجة زيادة العرض، ساعد علي هذا أن حتي المقبولين علي شرائه أحسوا أنهم يمكن أن ينتظروا بعض الوقت لتوقعهم استمرار انخفاض الأسعار.. ولكن هذا لا يمنع أن هناك فترات معروفة تقل فيها أسعار الذهب وهي الفترات التي تزداد فيها الحاجة إلي نقود.. مثل موسم الدروس الخصوصية وبدأ الصيف والأعياد وسفر الأبناء للخارج فيلجأ الكثيرون إلي بيع الذهب الذي لديهم، كما يؤكد أن أسعار الذهب ترتفع سنويًا بنسبة تتماشي مع الأرقام القياسية لأسعار المعيشة والأحوال النقدية السائدة ونسبة هذا الارتفاع تتراوح ما بين 4% إلي 5%.
وإذا رجعنا إلي عام 1971 سنجد أن سعر جرام الذهب عيار 21 كان 98 قرشًا، ارتفع هذا السعر خلال سنة واحدة إلي 103 قروش، وفي الوقت الذي كان مفروضا فيه أن يستمر سعره في الارتفاع سنجد أن سعره قد انخفض في عام 1973 إلي 76 قرشًا والسبب أن حرب أكتوبر قد أدت إلي قيام العديد من المهاجرين ببيع ذهبهم مما أدي إلي زيادة المعروض منه.
ولكن ماذا عن ارتفاع سعره بعد ذلك حتي وصل هذه الأيام سعر الجرام عيار 21 إلي 443 قرشًا؟
في الواقع إن الأزمة العالمية مع الزيادة المتوقعة قد أدت إلي ارتفاع السعر بهذه الطريقة، كما أن هناك مواسم لانخفاض سعر الذهب فهناك أيضا مواسم لارتفاع أسعاره أهمها موسم الصيف، حيث تكثر الزيجات ويزداد الإقبال علي شراء الذهب.. ولكن هل يناسب السعر الحالي مع هذه الأسباب؟.. الإجابة أن الذهب مجنون.. مجنون.
احتياطي الذهب انخفض
ولابد أن نتساءل: ما قيمة الذهب الاقتصادية وما أثرها علي قيمة العملات؟
يقول خيري سوريال، نائب رئيس إدارة البحوث الاقتصادية بالبنك المركزي: إن احتياطي الذهب للدولة ما هو إلا كمية الذهب التي يحتفظ بها البنك المركزي أو الخزانة العامة للدولة.. ويتم تقويم هذا الاحتياطي بما يقابله من العملة المحلية.. وتلجأ الدولة عادة إلي استخدام رصيدها من الذهب عندما ينتهي رصيد الدولة من العملات الأجنبية كوسيلة لتسوية المدفوعات أو الالتزامات الدولية كالقروض.. لعل هذا هو السبب في تدهور رصيد مصر من احتياطي الذهب..
إن احتياطي مصر من الذهب كان يساوي 60.6 مليون جنيه في عام 1961، وصل الآن إلي 40.1 مليون جنيه وظاهرة انخفاض احتياطي الذهب ظاهرة عالمية لم تقتصر علي مصر فقط، فالولايات المتحدة الأمريكية، التي كان يبلغ احتياطها 14 بليون دولار في بداية السبعينيات، انخفض هذه الأيام حتي وصل إلي 9.7 بليون دولار.
حظر الاستيراد
القانون المصري يحظر علي الأفراد استيراد الذهب وسبب حظر الاستيراد يأتي من أن سبائك الذهب التي تدخل البلاد عن طريق التهريب تأتي لغرضين، إما التشغيل في السوق المحلية أو تمويل عمليات المقاصة، وفي الحالتين لا تستفيد الدولة بهذا الذهب القادم، لأنه في كلتا الحالتين لا يدخل في الغطاء الذهبي المحفوظ في بنوك الإصدار، أما الحالة الوحيدة التي يسمح فيها باستيراد الذهب فهي خاضعة لنظام يعرف باسم «السماح المؤقت»، حيث يسمح فيها باستيراد الذهب مع دفع تأمين يساوي قيمة الذهب لحين إعادة تصديره إلي الخارج، أي أن الهدف من أن يخصص الذهب المستورد لعمليات التصدير فقط بعد أن يتم تصنيعه بالداخل ولأن كل التجار لا يستطيعون دفع قيمة هذا التأمين، فإن عمليات الاستيراد تكاد تكون مقصورة علي شركات القطاع العام، التي تقوم بتصنيع الذهب المستورد ثم إعادة تصديره مرة أخري.
وإذا كان استيراد الذهب يتعرض لكل هذه المصاعب فماذا عن الإنتاج المحلي؟!.. الحقيقة أن عمليات استخراج الذهب تحكمها اعتبارات اقتصادية بحتة، وهناك في الصحراء الشرقية 6 مناجم كانت تستغل حتي من وقت قدماء المصريين.. وهذه المناجم قد تركت منذ زمن بعيد لأن تكاليف استخراج الذهب منها أكبر من العائد المنتظر.. لكن الدراسات تؤكد أنه يمكن إعادة استغلال هذه المناجم مرة أخري.. ويمكن أن نستخرج منها 70 ألف طن خام وبذلك يمكن استخراج ما يقرب من 2500 كيلو من الذهب سنويًا، وهذه المناجم هي منجم عقود وبه نحو 26 ألف طن من الخام ومنجم أم عود وبه حوالي 8 آلاف طن ومنجم الرمية 25 طنا يوميا ومنجم سمنتة 10 آلاف طن ومنجم العرضية 20 ألف طن ومنجم أم الحروس 5 آلاف طن.. المهم أن ننجح في إعادة الحياة إلي مناجم الذهب المهجورة.
نشر بمجلة أكتوبر في سبتمبر 1978م – 1398هـ