ترك ﷺ نفسه من ثلاثٍ: الجدل، والتعالي في معاشرته الناس، وما لا يعنيه. وترك الناسَ من ثلاثٍ: كان لا يذم أحدًا ولا يعيبه، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه..
(من كلمة لفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، في ذكرى الاحتفال ب المولد النبوي الشريف 1443هـ -2021م)
1
درجتُ منذ سنواتٍ ليست قليلة على طقس يكاد يكون شبه ثابت فى ذكرى ميلاد النبى الكريم رسولنا الخاتم محمد ﷺ؛ أقرأ ما تيسر من سيرته الشريفة فى الكتب القديمة والحديثة والمعاصرة على السواء؛ لا أقف عند التفاصيل بقدر ما تظهر المعانى وتتجلى الدلالات؛ وكنت كلما أعاود القراءة أكتشف جوانب من العظمة الإنسانية والسمو والرفعة التى تليق بخاتم الرسل والأنبياء ومبلغ رسالة السماء إلى العالمين.
ودائمًا ما كانت تستوقفنى تأملات بعض الكتاب والمفكرين فى معنى «النبوة» والمغزى فى أن يكون الرسول ﷺ خاتم الأنبياء والرسل..
وكان مما اقتنصته فى هذا الشأن؛ هذه الفقرة البليغة التى يقول فيها الشاعر الباكستانى الأشهر محمد إقبال: «إن النبوة فى الإسلام لتبلغ كمالها الأخير فى إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوى على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدًا إلى الأبد على مقود يُقاد منه، وإن الإنسان لكى يحصل كمال معرفته لنفسه، ينبغى أن يُترك ليعتمد فى النهاية على وسائله هو... ومعنى هذا أن على الإنسان ألا ينتظر وحيا جديدًا، وألا يعتمد على وسيلة من وسائل المعرفة التى تشابه الوحي، فى تلقائيتها وشمولها، وأن يحدد لوجدانه وغرائزه وظيفة غير وظائف المعرفة، وأن يجعل من العقل وحده الوسيلة الإنسانية الحقة للمعرفة..
ويبقى للدين دوره الخطير فى الوجود، لا بكبت العقل أو تحديد مجاله، أو التدخل فى تطلعاته، ولكن بضمان استغلاله لخير الإنسان والوجود، وصده عن مغريات التدمير والهلاك، ونشره الحب لواء يستظل به المفكرون، ويتقون به نداءات الأنانية والكبرياء والعبث واليأس. بذلك يتقدس العقل، ويحقق غزواته، فى رحاب الكون وحقيقته العليا، ويصبح تكريس الحياة له عقلانية وعبادة فى آنٍ».
وكان من اللافت إلى أن هذا النص الرفيع نقلًا عن الهادئ الوديع الصوفى السمح، نجيب محفوظ، فى حولياته الرائعة عن الدين والفلسفة والثقافة، (الدار المصرية اللبنانية، ج1، ص 43) وقد كان أديب نوبل من المولعين بقراءة السيرة المطهرة، ومعاودة قراءتها وتأثر بكتب السيرة ومطولاتها فى استلهام بعض أعماله الروائية والسردية.
2
كان محفوظ واعيًا تماما بأن المرء بخلقه، وأن الإسلام خلق، وقد كان رسول الله ﷺ خلقًا يمشى على الأرض، ولكم فى رسول الله أسوة حسنة، لذا فإننى أدعو وسأظل أدعو وألح فى الدعوة إلى التعرف على جوهر الخلق النبوى وعلى تساميه وإنسانيته وضربه المثل الأعلى فى الأدب والأخلاق والإنسانية واحترام الآخر واحترام التعددية والتنوع والتسامح واحترام العلم وقيمة التعلم والحض عليها.. هذه هى السيرة التى يجب أن يعرفها أبناؤنا وبناتنا..
تعالوا نعيد اكتشاف سيرة رسولنا الكريم الملقب «الصادق الأمين»، الذى ضرب فى كل رواية عنه، وفى كل موقف أو حدث روى عنه ﷺ مثلًا راقيًا من مثل الإنسانية والمحبة واحترام الناس؛ صغيرهم قبل كبيرهم، وضعيفهم قبل قويهم، وفقيرهم قبل غنيهم..
دائما ما أرى سيرته العطرة منجما للقيم والمحبة والدعوة الإنسانية، أرى فى كل كتاب أقرأه وكل نسخة من السيرة نموذجا فذا على الرقى والدعوة إلى التحرر والتحضر فى ظل مجتمع قاس خشن فظ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك.. كم أحب هذه الآية وأستشعر جمالها ورقتها وإنسانيتها فى الخطاب الموجه من الله عزو وجل إلى رسوله الكريم.
تعالوا نفتش عن كنوز السيرة النبوية وجواهرها.. تعالوا نعرف كيف كان ﷺ يعامل اليهودى والمسيحى وأى آخر لا ينتمى للإسلام.. تعالوا ننفض أغلال الوهم والجهل والفهم الحرفى المنغلق لسيرته ﷺ وأحاديثه.. لماذا نترك سيرة نبينا حكرًا على المتأسلمين وتفسيراتهم المنغلقة والمتعصبة؟!
إنها دعوة للانفتاح على النبى وتراث النبى بروح سمحة وعقول ساعية للمعرفة دون حدود..
3
بدأت علاقتى ب السيرة النبوية الشريفة مبكرا جدا؛ ربما قبل أن أدخل المدرسة ذلك أنى أذكر جيدا ولعى بسلسلة قصص مصورة ملونة (لا أتذكر عنوانها الآن) كانت القصة الواحدة أشبه بالملزمة قليلة الصفحات كلامها قليل جدا ولم فى ذلك الوقت يعنى لى أى شيء! إنما كان ما يعنينى هو الصورة أو اللوحة والألوان.. لفت نظرى مفردات هذه الرسومات من شخوص ترتدى أزياء عجيبة ونخل وصحراء وجمال.. لم أكن أفقه شيئا سوى أننى مستمتع بالصور والألوان والخيال.. فقط ولا شيء آخر!
لكن بالتأكيد كانت السنوات المبكرة من العمر مقصورة على سرد السيرة النبوية وأحداثها الكبرى وشخصياتها التى اتصلت بنبينا عليه الصلاة والسلام، قد كان هناك من الكتابات والقصص الموجهة للأطفال واليافعين (من سن 12 إلى سن 18) ما يفى بهذا الغرض تماما وفى أحسن شكل وحلة وكذلك من ناحية مراعاة اللغة المكتوبة بها الموجهة لهذه الشرائح العمرية المبكرة.
من أوائل ما طالعت من نصوص عن السيرة النبوية الشريفة تلك التى كتبها عبد الحميد جودة السحار بعنوان «السيرة النبوية» فى 24 جزءا؛ وأزعم أن هذه الحلقات المبسطة التى لم تكن الواحدة منها تزيد على عشرين صفحة من القطع الأكبر قليلًا من الصغير، وحروفها مكبّرة ومشكولة، كانت هى نقطة البدء والانطلاق لقراءاتٍ أوسع وأكبر وأكثر عمقًا وتخصصًا ودقة فى الثقافة الإسلامية عموما، وسيرة النبى الأكرم ﷺ والتاريخ الإسلامى والحضارة الإسلامية
كان الجزء الواحد منها لا يزيد على العشرين صفحة مكتوبة بخط كبير ومضبوطة ومشكولة، وبما يحقق الفائدة اللغوية الكاملة المرجوة لقراء هذه السن.
أظن أن هذه الحلقات كانت العتبة الأولى المبهجة والثرية وعظيمة الفائدة فى اكتساب المعرفة الأولية بسيرة نبينا الكريم عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم.
وغير هذه الحلقات الممتعة، كانت ثمة سلاسل أخرى عديدة؛ بالعشرات (بل ربما بالمئات وعشرات المئات)، لكن يظل من بينها، بالإضافة إلى مجموعة السحار، مجموعة محمد أحمد برانق، التى طبعتها دار المعارف مرارًا، ومجموعة المرحوم الدكتور أحمد شلبى فى 16 جزءًا (بذات القطع والحجم تقريبًا الذى صدرت به مجموعة السحار المشار إليها سابقًا).
غطت هذه المجموعات والحلقات والسلاسل الفترةَ العمرية التى بدأت بالسابعة وانتهت بالخامسة عشرة، حينما نمت القدرات والمدارك ونضج الوعى قليلا ما سمح إلى الانتقال لقراءة الكتب الموجهة للكبار والنصوص الكاملة فى كتاب أو أكثر التى اتخذت من السيرة النبوية المشرفة موضوعًا لها؛ سواء كان ذلك بغرض العرض وسرد الأحداث والوقائع وفق التسلسل الزمنى والترتيب التاريخى المعروف أو بأى طريقة جديدة أخرى فى المعالجة والتناول أو غير ذلك مما يدخل فى دوائر القراءات المتخصصة بل شديدة التخصص والتركيب، وربما أيضًا الصعوبة!
4
ابتداء من الخامسة عشرة؛ سيكون هناك نظر وتأمل مختلف فى جوانب السيرة العطرة، وما روى عن النبى ﷺ من رواية موثوقة، ودائمًا ما كانت تستوقفنى تأملات بعض الكتاب والمفكرين فى معنى «النبوة» والمغزى فى أن يكون الرسول ﷺ خاتم الأنبياء والرسل..
وكان مما اقتنصته فى هذا الشأن؛ هذه الفقرة البليغة التى يقول فيها الشاعر الباكستانى الأشهر محمد إقبال: «إن النبوة فى الإسلام لتبلغ كمالها الأخير فى إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوى على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدًا إلى الأبد على مقود يُقاد منه، وإن الإنسان لكى يحصل على كمال معرفته لنفسه ينبغى أن يُترك ليعتمد فى النهاية على وسائله...
ومعنى هذا أن على الإنسان ألا ينتظر وحيا جديدًا، وألا يعتمد على وسيلة من وسائل المعرفة التى تشابه الوحي، فى تلقائيتها وشمولها، وأن يحدد لوجدانه وغرائزه وظيفة غير وظائف المعرفة، وأن يجعل من العقل وحده الوسيلة الإنسانية الحقة للمعرفة...
ويبقى للدين دوره الخطير فى الوجود، لا بكبت العقل أو تحديد مجاله أو التدخل فى تطلعاته، ولكن بضمان استغلاله لخير الإنسان والوجود، وصده عن مغريات التدمير والهلاك، ونشره الحب لواء يستظل به المفكرون، ويتقون به نداءات الأنانية والكبرياء والعبث واليأس. بذلك يتقدس العقل، يحقق غزواته، فى رحاب الكون وحقيقته العليا، يصبح تكريس الحياة له عقلانية وعبادة فى آنٍ».
5
عمومًا، ما زلتُ -وأنا أقترب من الخمسين- أستنشق عطر السيرة النبوية وأتنسم عبيرها وجمالها، وأستدعى صورًا ومشاهد من أيام الصبا الباكرة فى مقاربة نصوصها، والتوقف أمامها وإعادة قراءتها، ولا أزال أذكر رغبتى -التى تولدت بدافع هذه القراءات - فى أن يكون لى ذات يومٍ إسهام ولو بسيط فى هذا المجال.
وقررت -حينها- أن أقرأ كلَّ ما كُتب عن السيرة النبوية من كتابات معاصرة أولًا، قبل أن أقرأ مصادرها التراثية الأصيلة، من أول «سيرة ابن إسحاق» و«تهذيبها لابن هشام» وصولًا إلى الشروحات الضخمة على كليهما، ولعل من أشهرها كتاب «الروض الأُنف فى شرح السيرة النبوية لابن هشام»، ويسمَّى اختصارًا «الروضُ الأُنُفُ» لمؤلفه أبو القاسم السهيلى (508هـ - 1114م/581هـ - 1185م).
و أذكر جيدًا تتبعى لمجموعات السيرة النبوية المستخلصة من كتب التواريخ العامة والتفسير والحديث، ومنها على سبيل المثال « السيرة النبوية فى تاريخ الطبري»، و« السيرة النبوية فى تاريخ الكامل لابن الأثير»، وما سار على مثالهما، فكانت الصحبة عامرة والتفاصيل حاضرة والمعايشة كاملة، وخلصتُ إلى أن من أراد أن يتعرف على إنسانية الإسلام وقيمه وسموه، فإنه سيراها مجسدة فى سيرة النبى ﷺ.
من هنا تبلور الغرض والمنظور الذى تقرأ من خلاله مدونات السيرة النبوية القديمة منها والحديثة، ذلك أن العنوان العريض هو «محمد الرسول المصلح»، فكم من عظماء الرجال زالت عظمتهم أو قلّت قيمتهم بمرور الزمان عليهم، وتنبُّه الناس تنبهًا صحيحًا لأعمالهم، ووزنهم بموازين عصرهم. ولكن محمدًا ﷺ ظلت قيمته قيمته، وعظمته عظمته، مهما اختلفت العصور، وتغيرت الموازين؛ بل إن الزمن ليزيد عظمته وضوحًا، والموازين الأخلاقية الجديدة تزيد مكانته رفعة، هذا إذا استعرنا عبارة العلامة النهضوى أحمد أمين كما سجلها فى كتابه «فيض الخاطر».
وكم لمحمدٍ من نواحى عظمة ومظاهر سمو، ولكن لعل أروعها جميعًا ما جاء به من دعوة، وما قام به من إصلاح. لقد آمن محمد بالأنبياء جميعًا، وبرسالتهم جميعًا، وبإصلاحهم جميعًا، ودعا من يؤمن به أن يؤمن بهم، وعَلَّم أن الحق فى كل زمان واحد، قد دعا إليه كل نبى قبله، وأنه داع دعوتهم، مرسل بمثل رسالتهم، مطهر لما لحق تعاليمهم من الشوائب، مصلح لما أدخله الأتباع من الفساد، متقدم فى رسالته تقدم الزمان فى عقليته، مبعوث إلى الكافة، مرسل إلى العالمين.