أكتوبر .. تفاصيل الحكاية

علي متن الطائرة الرئاسية في طريق العودة من المملكة العربية السعودية للقاهرة بعد قمة جمعت الرئيس السادات والملك خالد بن عبد العزيز آل سعود، جاء السكرتير الخاص ب الرئيس السادات يدعو الأستاذ أنيس منصور للقاء الرئيس في حجرته.

مجرد أن سلم على الرئيس قال له: أنيس بدون مقدمات .. أنا عاوزك تطلع مجلة.

الفكرة كانت لدي الرئيس السادات بداية عام 1976، خاصة وهو يتحرك باتجاه مسار محدد لاستكمال استرداد الأراضي المصرية والعربية.

هنا قرر الرئيس أن يكون هناك صوتا لهذا المسار يدافع عنه ويوثق أعظم انتصار في تاريخ الدولة المصرية.

قال الرئيس السادات في أحد لقاءاته مع عدد من رؤساء التحرير لم يكن يحضره أنيس منصور ؛ سنصدر مجلة 6 أكتوبر 10 رمضان، وقال علي الجمال لـ « أنيس منصور » ذلك، وكان الأخير في ذلك الوقت رئيسا لتحرير مجلة آخر ساعة.

واقترح الجمال علي الرئيس السادات أن تصدر عن مؤسسة الأهرام ، لكن الرئيس السادات كان له رأي أخر.

فقد كان يستهدف أن يكون الإصدار الجديد يحمل طابعا صحفيا مختلفا تماما يكون له تأثير قوي في مواجهة محاولات تشويه المسار المصري والرؤية المصرية بشأن استرداد الأرض، وتكون نموذجا لصحافة رشيقة متزنة ومشاغبة أيضا دفاعا عن قضايا ومكتسبات الوطن.

التكليف الرئاسي كان واضحا، مجلة مصرية ناطقة باللغة العربية تصدر أسبوعيا تحمل عنوان النصر، تفاصيل الرؤية لهذا المسار كانت في ذهن الرئيس محمد أنور السادات فقط.

الأستاذ وفيلسوف الصحافة المصرية أنيس منصور تلقي التكليف، ولأن الرئيس لم يفصح عن التفاصيل بدأ الأستاذ في التحرك بحثا عن مسار لتلك المجلة التي أصدر الرئيس قرارا بإصدارها عن مؤسسة لم يكن لها أي إصدار صحفي في ذلك الوقت، لكنها هي من أعرق وأعظم دور النشر العربية.

لم يكن الاختيار صدفة لكن الرئيس كان يرغب في أن تصبح المجلة الوليدة هي أيضا من أعظم وأكثر المجلات العربية انتشارا مثل المؤسسة الصادرة عنها.

كما أنه كان يريد أن تصبح المجلة منفردة بتوثيق تفاصيل النصر، ولم ينس الرئيس وهو يكلف أنيس منصور أن يقول له، لا تقلق أنا معك.

لم يكن أنيس منصور قد التقي ب الرئيس السادات قبل ذلك سوي مرتين فقط.

الأولي في عام 1969 عندما كان السادات رئيسا للجمهورية والثانية في عام 1970 عندما طلب منه أن أن يصدر صفحة أدبية في الأخبار، فقد تابع السادات سلسلة من المقالات لـ «أنيس منصور» اسمها «ديانات أخري».

ظل أنيس منصور علي مدي شهرين يحاول أن يعرف اسم المجلة فاتصل بـ «يوسف السباعي» وزير الثقافة في ذلك الوقت وأيضا ممدوح سالم رئيس الوزراء وإسماعيل فهمي وزير الخارجية ليعرف ميزانية المجلة أو شكلها أو حجمها أو ميزانيتها لكنه لم يجد جوابا شافيا رغم حديث علي الجمال معه فلم يجد ما يؤكد رواية الجمال بشأن اسم المجلة.

في 15 مايو 1976 وخلال مؤتمر صحفي بفيينا قال الرئيس السادات إنه سيصدر مجلة وعين أنيس منصور رئيسا لمجلس إدارة دار المعارف و6 أكتوبر، لهذا الغرض، وستصدر في 23 يوليو 1976.

هنا اقترح وزير الخارجية ونائب رئيس الوزراء في ذلك الوقت علي الرئيس السادات أن يصبح اسمها " مجلة أكتوبر " فقط وليس 6 أكتوبر.

لكن الاسم الذي اختاره الرئيس لذلك الإصدار الوليد ظل عقبة كبيرة من وجهة نظر أنيس منصور، فهو يري أنه لم يسبق أن سميت مجلة باسم شهر من الشهور خاصة أن البعض تناولها بالسخرية قائلا: " أكتوبر ستغلق في نوفمبر".

وهنا طلب أنيس من الرئيس السادات توجيه رسالة للمحررين الذين انضموا إليه في ذلك الإصدار الواعد رغم حملة التشكيك الضارية التي استهدفته خلال فترة الإعداد علي مدي 5 أشهر ليثبت لهم أن هذا المشروع الوليد حقيقة وليست مشروعا وهميا.

وقام الرئيس السادات بتسجيل رسالة كان لها عظيم الأثر في نفوس كافة الزملاء حيث جمع أنيس منصور كافة المحررين ليستمعوا إلي رسالة الرئيس لهم.

كما طلب أيضا من الرئيس أن يوجه بأن تنشر رسالته لمحرري أكتوبر في كافة الصحف وفي الإذاعة والتليفزيون، في يوم صدور العدد الأول لكي تكتسب قوة لدي القارئ أيضا.

وكانت رسالة الرئيس بمثابة شهادة ميلاد مختلفة للمجلة عن المجلات الأخري ومنحتها قوة دفع غير مسبوقة، خاصة وأن الرئيس كان يريد لـ « أكتوبر » أن تصبح مثل الحوادث اللبنانية، التي كانت تعكس جو الحرية.

كما كانت المجلة الوليدة بمثابة منهج جديد فقد اختصها الرئيس السادات بعدد من الأحاديث بلغ 12 حديثا، ليصل بأحاديثه إلي العالم، علي عكس ما كان يفعل الرئيس عبد الناصر فلم يدلي بأي أحاديث لمجلة مصرية بينما أدلي بمئات الأحاديث إلي الصحف والإذاعات العربية والأجنبية.

كما اختصها بجزء من مذكراته التي حملت عنوان "الجليد يذوب بين موسكو والقاهرة" وكانت وجهة نظر الرئيس أن يوصل وجهة نظره للشباب ويشرح لهم حقيقة العلاقة بين مصر والاتحاد السوفيتي خصوصا بعد التطور الذي شهدته من مرحلة علاقة وثيقة جدا إلي مرحلة علاقة عادية أو شبه مجمدة.

لقد كان لـ أوراق الرئيس التي كانت جزءا من مذكراته وكذا أحاديثه الخاصة للمجلة دورا كبيرا في أن جعل منها مركزا مهما ليس لنشر الأخبار بل مركزا لصناعة الاخبار للعديد من وكالات الأنباء العالمية.

فأصبحت المجلة الأكثر تأثيرا في العالم العربي متفوقة علي الحوادث اللبنانية، لما لا وقد وجه الرئيس دعوة لأسرة تحرير مجلة أكتوبر للجلوس معهم في ميت أبو الكوم، واستمع إليهم؛ وهو ما لم يحدث مع أي إصدار صحفي آخر في مصر.

(2) واصلت مجلة أكتوبر منذ انطلاقها نهاية شهر أكتوبر 1976 الصعود بعد أن جذبت إليها عمالقة الأدب والثقافة والفكر، وأهم وأشهر المؤرخين، وعلي صفحاتها سطرت تفاصيل معركة السلام، التي لم تكن بالأمر الهين فالعدو مراوغ، بل ويزداد في المراوغة بعد أن التقط أنفاسه وحصل علي دعم غير مسبوق من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، والبعض علي الجانب الآخر لم يقرأ المشهد قراءة مستنيرة أو واعية، فحاول استهداف الدولة المصرية وقيادتها؛ والشارع بات في حالة ارتباك ما بين مؤيد للسلام ومعارض له.

لقد اتهموا من يدعون للسلام بأنهم فرطوا في دماء الشهداء.

مشهد كانت تفاصيله كثيرة وبناء الوعي فيه ليس بالأمر الهين فكان لمجلة أكتوبر دور كبير في تلك المعركة، لم لا وعلي صفحاتها كانت تنشر تفاصيل ما يحدث داخل المجتمع الإسرائيلي، الأمر الذي دعا رئيس تحرير صحيفة معاريف أن ينقل مكتبه للقاهرة لأكثر من 6 أشهر وعندما سأله أنيس منصور لم فعلت ذلك، فقال في القاهرة تصنع الأخبار.

كانت أكتوبر تطبع بالقاهرة و بيروت في آن واحد فقد كان لدار المعارف فرع ومطبعة في بيروت .

جمعت أكتوبر عمالقة الأدب مثل إحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي ونجيب محفوظ وشهدت جنبات مبناها زيارة العديد من الوزراء والرؤساء العرب.

لقد ولدت مجلة أكتوبر عملاقا وواصلت مسيرتها لتحقيق الهدف الذي حدده لها الرئيس السادات واتفق مع الأستاذ أنيس منصور عليه في كلمته الافتتاحية للعدد الأول التي عنونها بعبارة "من كل قلبي أدعو لأسرة مجلة أكتوبر بالتوفيق".

حرص أنيس منصور علي أن يكون محررو أكتوبر من المتميزين.

كما ضمت أهم المؤرخين وعلي رأسهم المؤرخ الكبير عبد العظيم رمضان، والمؤرخ العسكري الكبير جمال حماد، والعديد من القادة العسكريين، فضمت حوارات خاصة مع كافة وزراء الدفاع بدءا من المشير محمد عبد الغني الجمسي وزير الحربية وانتهاء بالمشير محمد حسين طنطاوي الذي أجرت معه مجلة أكتوبر حديثين واختصها بمقال في عام 2009 في عدد خاص صدر بمناسبة حرب أكتوبر .

كما أجرت عدة لقاءات مع عدد من وزراء الداخلية؛ واختصها عدد من الوزراء منهم وزير الخارجية ونائب رئيس الوزراء بعدد من المقالات نشرت بالمجلة.

وكانت صفحات مجلة أكتوبر بمثابة أول حلقة نقاش وتوثيق لحرب أكتوبر علي مدي 18 حلقة من مذكرات المشير الجمسي أعقبها تعليق عدد من القادة من بينهم الفريق سعد الدين الشاذلي، والذي نشر تعليقه بالكامل دون حذف لكلمة واحدة، ورد عليها المشير الجمسي لتوثق تفاصيل أكبر حرب وأعظم ملحمة عسكرية في العصر الحديث.

وواصلت أكتوبر مسيرتها وانفرادها بحوارات وتحقيقات وتقارير ودراسات ومذكرات واشتباكات فكرية بين مختلف التيارات فكانت وما زالت صاحبة المساحة غير المحدودة في الحرية التي تستمدها من الدولة المصرية صاحبة التاريخ والحضارة.

ونحن في هذا العدد التذكاري نعمل علي مواصلة مسيرة مجلة أكتوبر متسلحين بتاريخ صنعه الأساتذة وشغف يملأ الشباب وعشق للوطن وحفاظا علي مكتسباته ودفاعا عن هويته نستلهم الرؤية من القيادة الوطنية الحكيمة، ونستمد القوة من ذلك الشعب الأبي صانع البطولة، ونؤمن بأن هناك متغيرات عديدة جعلت من الحروب الحديثة شكلا مغايرا عن تلك الحروب التقليدية، فألقت بالعبء علي الصحافة والإعلام وأصحاب الفكر لمواجهة من يحاولون أن يغيبوا العقول ويهزموا الشعوب من الداخل، فيصبح احتلال الأوطان أكثر سهولة وأقل كلفة.

لقد أخذنا عهدا علي أنفسنا أن نستكمل مسيرة بدأها أساتذة عظام، في بناء الوعي.

فكان العدد التذكاري 2500 بمثابة انطلاقة نحو مرحلة جديدة من مراحل التطوير لمجلة أكتوبر، تشمل المحتوي والشكل الفني والإخراج والاستفادة من التكنولوجيا، ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث تم عمل ماكيت جديد للمجلة تستعد به للاحتفال بمرور نصف قرن علي صدورها، ويتوافق مع كافة الفنون الصحفية، ويربط بين الصحافة الورقية والالكترونية، ففي هذا العدد تجد عزيزي القارئ استطلاعات رأي علي الموضوعات المنشورة وكذا مساحة نتلقي منك خلالها أي تعليق، عبر ربط المحتوي المنشور في المجلة الورقية بالمحتوي الإلكتروني.

وكما كان لهيئة قناة السويس فضل في العدد الأول من مجلة أكتوبر عندما منح المهندس مشهور أحمد مشهور أحدث ماكينات الطباعة في العالم لمجلة أكتوبر فاستوجب علي ذلك تقديم الشكر.

ونحن في العدد التذكاري قدم لنا المصرفي الكبير عاكف المغربي الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب لـ بنك قناة السويس الرعاية الكاملة لهذا العدد فاستوجب علي ذلك تقديم الشكر واستحق كل العرفان والتقدير.

وقريبا في العدد بعد القادم تكشف أكتوبر أسرارا جديدة لم تنشر عن حرب أكتوبر ننفرد بها لنكمل توثيق أعظم نصر في التاريخ الحديث.

أضف تعليق