أنيس منصور محررًا ثقافيًا

أنيس منصور محررًا ثقافيًاايهاب الملاح

الرأى23-9-2024 | 18:56

عام تقريبا ونحتفل بمرور نصف القرن على صدور العدد الأول من (أكتوبر)، أما هذا العدد -بين يديك عزيزي القارئ- فيحمل الرقم 2500.

ما بين العدد الأول والعدد (2500) 48 عامًا من الانخراط الكامل في وقائع الوطن والعالم ومتابعتها وتوثيق أحداثها وتدوين ما جرى كأنها «جبرتي» السياسة والاجتماع والثقافة والشأن العام والشأن الخارجي، وكل ما يمس المواطن المصري والعربي خلال نصف القرن هكذا.

كان ظهور مجلة أكتوبر في العام 1976 حدثًا بكل ما تعنيه الكلمة؛ لم تكن مجلة عادية لا في فكرتها، ولا في خطوات تنفيذها، وصولًا إلى ظهور العدد الأول بفونت كلمة «أكتوبر» المخصوص وقطعها المميز، ثم الإعلان المدوي عن ظهور تلك الدورية الصحفية ذات النكهة الممتازة التي يختلط فيها السياسي بالاجتماعي، والثقافي بالأدبي، والفني بالجمالي.. عينها على ما يدور في العالم كله، ولا تترك شاردة ولا ورادة في عالمنا العربي دون أن تتابعه وتشبعه تحليلا، أما الشأن الداخلي، فكانت تمثل نبضه الصادق وأداة استشعاره الدقيق.

إنها مجلة أكتوبر التي رأس تحريرها الصحفي اللامع والمثقف المعروف أنيس منصور، وكتب افتتاحية عددها الأول الرئيس الراحل أنور السادات، وتزينت صفحاتها بمقالات ومواد كبار الكتاب المصريين وصفوة العقول من الأجيال المختلفة؛ توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، حسين مؤنس، مصطفى محمود، محمد جلال كشك، محمد سعيد العشماوي، فرج فودة، وعبد العظيم رمضان.. وعشرات غيرهم.

وما من مرة يحل فيها عيد ميلاد مجلة أكتوبر، أو نحتفل بصدور عدد تذكاري من أعدادها، إلا وأتذكر ما عاينته بنفسي وأنا في العاشرة من عمري؛ وكأن خيطا قدريا يشد مصيري إلى هذه الكلمة التي أحب «أكتوبر»
أذكر أن المرة الأولى التي قرأتُ فيها (أكتوبر)، واقتنيت عددا منها كان في النصف الثاني من الثمانينيات، ربما سنة 1986، أو 1987، لا أذكر على وجه التحديد، لكني أتذكر جيدًا أن والدي أعطاني نقودا لشراء عدد مجلة أكتوبر التي أعلنت أنها ستنشر مذكرات المشير محمد عبد الغني الجمسي، أحد أبطال حرب أكتوبر ، ورئيس هيئة عمليات القوات المسلحة أثناءها.

وطلب مني الوالد أن أتابع الأعداد لاحقا وتجميع حلقات هذه المذكرات كاملة، وفّر لي الوالد -مد الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية- فرصة ذهبية للتعرف على مطبوعة جديدة عليّ آنذاك، وكانت المرة الأولى التي تصافح فيها عيناي صفحاتها وأبوابها، وأقرأ للمرة الأولى المواد الثقافية والفنية التي كانت تستهويني وتجتذبني بشدة وأنا في هذه السن الباكرة، وتعرفت من خلالها على أسماء فرج فودة، وسعيد العشماوي، وعبد العظيم رمضان، وحسين مؤنس.. ومن محرري المجلة في أبواب الثقافة والأدب والفن عبد العال الحمامصي، وفخري فايد، ومحمود فوزي، ومحمد قابيل، وفتحي الإبياري
نعم.. وقعت في غرام (أكتوبر)، هذه المطبوعة الخاصة جدًا في تاريخ الصحافة المصرية؛ لأنها مثلت لي حالة شغف واستجابة معرفية وقرائية ذات طبيعة خاصة؛ إنها تعني لي المادة الصحفية الشائقة، والصياغة الخبرية الرصينة، والتحقيق الصحفي المنضبط، ومقال الرأي المعتبر لكتاب معتبرين، لهم قيمتهم ووزنهم الثقافي والفكري.. كل ذلك مثلته لي «أكتوبر» وأنا في هذه السن الباكرة؛ بل كانت «أكتوبر» بفضل أسماء بعينها إحدى بواباتي السحرية لعالم القراءة والمعرفة والشغف الذي لا ينتهي؛ ولا أريد له أن ينتهي أبدًا..

بلا شكٍ، تمثل ثلاثة وأربعون عاما من عمر مجلة (أكتوبر) فترة عامرة ومزدحمة بجلائل الأعمال والمواقف والتفاصيل، شخصيات ومشاهير ولحظات تاريخية، هي جزء من تاريخ هذا الوطن، في الوقت الذي كانت فيه أيضا شاهدة عليه وموثقة له.

ما يقرب من العقود الخمسة شهدت فيها المجلة سنوات أمجاد لا تتكرر، كما شهدت فترات نكوص لعبت فيها عوامل عديدة فعلها، لكن التاريخ لا يكذب ولا يتجمل، والتاريخ يقول لنا، عبر شهادات وكتابات ووثائق أصيلة وشهود عدل، إن هذه «المجلة» التي تأسست بقرار من الرئيس الراحل أنور السادات في أواخر سنة 1976، كانت حدثًا جللًا بكل المقاييس، وكانت إضافة حقيقية ومتميزة في مسيرة الصحافة المصرية، واستطاعت بفضل الكتيبة المختارة التي قامت على أكتافها هذه المجلة أن تتصدر الساحة الصحفية بامتياز واقتدار واستحقاق لما يزيد علي عشرة أعوام متصلة.

في كتابه الممتع «كنت صبيا في السبعينيات ـ سيرة ثقافية اجتماعية»؛ يرصد محمود عبد الشكور لحظة الميلاد؛ وظهور العدد الأول من المجلة؛ يقول: «عندما صدر العدد الأول من (مجلة أكتوبر)، برئاسة تحرير أنيس منصور في ديسمبر 1976، كان العدد في منزلنا يوم صدوره، كانت أول مجلة تصمد للبقاء بعد 1952، وكان ذلك بدعم مباشر من السادات الذي كان حكي في العدد الأول عن «ذوبان الجليد بين القاهرة وموسكو».

يتابع «أذكر أن الصفحة الأولي من العدد خُصصت للتنويه عن انفراد المجلة بنشر ترجمة لمذكرات سوزان طه حسين بعنوان: «معك». كانت المجلة إضافة جديدة للحياة الصحفية، كتب إحسان عبد القدوس في العدد الأول محاوراته الشهيرة «على مقهى في الشارع السياسي»، وبدأ في نفس العدد الأول نشر رواية «الحرافيش» لنجيب محفوظ مسلسلة، أتذكر أن أنيس وصف الرواية في مقدمة قصيرة بأنها «خلاصة فلسفة نجيب محفوظ عن الناس والحياة في مصر»، وكانت تلك الرواية أول عمل أقرأ بعض حلقاته لنجيب محفوظ.

لم يكن يعيب المجلة الجديدة سوى البنط الصغير الذي طبعت بها، وقد تم تلافي هذا العيب في الأعداد التالية، لا أنسى أن المجلة دفعت لإذاعة إعلان تليفزيوني تشكر فيه نصف مليون مصري اشتروا العدد الأول، لا أعرف مدى صحة الرقم، ولكن الناس كانت سعيدة بظهور مجلة جديدة تحمل اسم شهر النصر، لم أكن أعلم ولا أتخيل أنني سأعمل بمصادفة غريبة في نفس المجلة التي اشترى أبي عددها الأول».

وإذا كان السادات قد أسند رئاسة تحرير المجلة إلى نجم من نجوم الصحافة المصرية، وواحد من أنبه الكتاب الصحفيين في العالم العربي آنذاك، ففي ظني أن الاختيار لم يكن عشوائيا، ولا «ضربة لازب»، كما يقول التراثيون، ولكنه جاء اختيارا موفقا لعوامل كثيرة ليس أولها أو آخرها أن أنيس منصور لم يكن الصحفي السياسي فقط، بل كان في المقام الأول «المثقف» الفنان متعدد المواهب واسع الخبرات، يتمتع بشبكة واسعة بل هائلة من العلاقات الإنسانية والمهنية بأعظم وأشهر شخصيات المجتمع، في السياسة والصحافة والأدب والفكر والفن، وكان أنيس منصور موهوبا وبارعا في استثمار هذه الميزة، بما انعكس بالتأكيد على مجلة (أكتوبر) وأداءاتها ونجاحاتها المتلاحقة التي تحققت على يديه..

لم يكن غريبا ولا مستغربا على مجلة (أكتوبر) التي كان يترأس تحريرها مثقفٌ واسع الثقافة، وأديب روائي، وقاص ومسرحي، وفنان متعدد المواهب مثل أنيس منصور أن يكون هو نفسه «المحرر الثقافي» الأول للمجلة، وأن يساهم وهو رئيس لتحريرها، بمواد ثقافية خالصة وأدبية محضة وفكرية من الطراز الأول، وأن يشرف بنفسه خاصة في سنواتها الأولي علي المادة المقدمة للنشر ومراجعة تحريرها،
[وكان أن] استثمر أنيس منصور علاقاته الواسعة الطيبة بأكبر كتّاب عصره، فاستكتب للمجلة خصيصًا نخبة ممتازة ورائعة من صفوة الأقلام المصرية، نذكر منهم: نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، ومحمد جلال كشك، ومصطفي محمود، وعلي سالم، وفايز حلاوة، وآخرين كثيرين.
ولا يمكن أن يغفل أي مؤرخ لتاريخ الصحافة الثقافية أو باحث مهتم بتتبع تطور الصفحات الثقافية والأدبية علي صفحات الجرائد والمجلات عن أن أنيس منصور قد قدم تجربة فريدة من نوعها، في نشر ما يمكن أن نطلق عليه «المذكرات الثقافية» في مقابل «المذكرات السياسية»، أو جوانب من «السيرة الذاتية الثقافية»، برع أنيس منصور في ذلك براعة لا توصف وكتب علي صفحات المجلة حلقات متعددة تحت عنوان «في صالون العقاد كانت لنا أيام»، جمعها في [ما بعد] في كتاب من أشهر كتبه وأكثرها مبيعا ورواجا.

و أنيس منصور هو الذي اقترح على إحسان عبد القدوس أن يكتب لمجلة (أكتوبر) تحت عنوان «علي مقهي في الشارع السياسي» يروي فيها جانبا من مذكراته وسيرته الصحفية والسياسية، وهي أيضًا التي جمعت في ما بعد في كتاب من أشهر كتب إحسان عبد القدوس.

وربما لا يعرف الكثير من أبناء الأجيال الشابة والناشئة أن نجيب محفوظ قد نشر روايته الملحمية الكبري «الحرافيش» مسلسلة علي صفحات مجلة (أكتوبر) خلال الفترة (76-78) قبل أن ينشرها مجمعة في كتاب، وهو تقليد جميل للأسف الشديد اختفى واندثر من صحافتنا كلها خلال العقدين الأخيرين!

يروي أنيس منصور في مقال له نشره في (الأهرام) صبيحة اليوم الذي توفي فيه نجيب محفوظ (31 أغسطس 2006) «وعندما أخذت من نجيب محفوظ مسلسل الحرافيش لنشره في مجلة أكتوبر قدمها بذراعيه كأنه أم تعرض طفلها على الأهل لكي يقبلوه ويتأملوه ويدعو له بالعافية والسعادة،‏ وقال ضاحكا‏:‏ آخر العنقود‏!‏».

وكان أنيس منصور أيضًا حريصًا على رعاية هذا التقليد الجميل، وأحد المفاتيح السحرية في نجاح الصحافة المصرية في عصرها الذهبي، أقصد نشر الأعمال الروائية أو الإبداعية أو حتى غيرها على حلقات مسلسلة، لكبار المؤلفين المحترمين والأسماء الثقات، والكتاب الذين يحظون بسمعة عالية وجماهيرية كبيرة.

فعل هذا مع نجيب محفوظ في روايته «الحرافيش»، ومع توفيق الحكيم، ومع يوسف عز الدين عيسى، وزهير الشايب الذي نشر مذكراته عن الفترة التي قضاها في سوريا ورصد خلالها وقائع تجربة الوحدة مع سوريا والانفصال تحت عنوان «السماء تمطر ماء جافا»، وحتى مع الرئيس السادات نفسه!

ورغم أن مجلة (أكتوبر) نشأت في الأساس «سياسية اجتماعية» كما هو مكتوب على غلافها، لكن أنيس منصور كان بحسه وثقافته العريضة، وإدراكه المنفتح، يفهم من كلمتي «سياسية اجتماعية» معناهما الإنساني الواسع، أي بالضرورة مجلة «شاملة» ومتكاملة تقدم التحليل السياسي، ومقال الرأي، و»التحقيق» الذي يفجر قضية، والمتابعات الأسبوعية الشائقة، في الوقت الذي تُعنى فيه عناية كبيرة بالفنون والآداب والمرأة والاقتصاد، جنبًا إلي جنب المواد المسلية الأخرى كالمنوعات وما شابهها.

وأظن أن أنيس منصور كان يمتلك من الجرأة والخيال الصحفي الذي يجعله مبادرًا في الأحداث والمناسبات الكبري إلي إخراج أعداد وأغلفة «تاريخية» و»غير مسبوقة» بكل ما تعنيه الكلمة، مثلًا في وفاة الفنان عبد الحليم حافظ والفنانة فايزة أحمد، صدر الغلاف في المناسبتين مختلفًا تمامًا عن الخط الأساسي للمجلة، لكنه بحسه الصحفي ومرونته العقلية وذكائه الحاد أدرك إيقاع اللحظة فلم ينفصل عنها، ولم يفته التقاطها ورصدها، وتكرر هذا في مناسبات أخرى كثيرة.

كان هذا تقليدا أرساه أنيس منصور، تابعه فيه من خلفه في رئاسة تحرير المجلة، فمثلا، عندما فاز الكاتب والأديب يوسف عز الدين عيسي، الروائي والقصصي والإذاعي الشهير في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، بجائزة الدولة التقديرية في الآداب، خرج غلاف مجلة (أكتوبر) تتصدره صورة كبيرة بالألوان ليوسف عز الدين عيسي أمام مكتبته وكتب على الغلاف «عالم الحشرات الذي فاز بجائزة الآداب!»، وكانت هذه لفتات ذكية وبارعة تؤكد دائما أن رئيس التحرير ليس «منصبا» بل «ثقافة» و»وعي» و»حسن إدراك» و»قراءة سليمة» في المقام الأول قبل أي شيء آخر.

الكاتب الصحفي الراحل صلاح منتصر رئيس تحرير (أكتوبر) في محطتها التالية لأنيس منصور، وصفه بأنه «أسطورة كتابية»، وقال عنه «إذا قرأت له لا تريد أن تتوقف وإذا سمعته لا تريده أن يتوقف، هذا هو أنيس منصور، الذي لم يكن كاتباً واحداً، وإنما كاتب متعدد، فلم يقتصر عطاؤه علي مجال واحد من الكتابة، بل طرق مجالات أخري لم يتطرق لها كاتب آخر كالفلك والكيمياء وغيرهما، وتصوري أن أنيس منصور تأثر بأستاذه عباس محمود العقاد في غير وجه من الوجوه، وبالأخص في قراءاته، فلقد كان العقاد من الكتاب الذين يبحثون عن الجديد بين الكتب، وليس ما يريد فقط، وعلي ذلك سار أنيس منصور فكان مصاباً بما يمكن وصفه «النهم المعرفي» في كل المجالات وهو ما حقق له هذا التراكم المعرفي الهائل، كما أن إتقانه ومعرفته أربع لغات هي الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية ساعده علي ذلك ووسع أفق قراءاته في سياق هذا النهم المعرفي».

تؤكد هذه الشهادة المهمة ما أردت دائما إبرازه وتجليته في شخص رئيس التحرير؛ الدراية والكفاية والثقافة والمعرفة وحس اللحظة، فلو لم يكن أنيس منصور يتمتع بهذه المواهب مجتمعة لما كان واحدا من أبرز وأشهر الصحفيين في مصر والعالم العربي؛ وأتيح لتجربته الصحفية المهمة في مجلة (أكتوبر) أن تحفر قيمتها وأثرها بحروف من ذهب في تاريخ الصحافة المصرية.

أضف تعليق