لم نختلف منذ إنشاء كيان الاحتلال الإسرائيلي في عام 1948، على أنه كيان توسعي، يسعى للاستحواذ على كل متر من أرض فلسطين، والتوسع في دول الجوار، والسيطرة على المياه الإقليمية، واستيطان الغلاف الجوي لو كان في الإمكان.
ومن المُسلمات المعهودة، أن الكيان حافظت على بقائه واستمراريته القوى العظمى في العالم على مرحلتين مختلفتين، كانت الأولى برعاية بريطانية فرنسية، والمرحلة الثانية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية.
تلك المُسَلَمة السياسية، صنعت صورة ذهنية عن كيان الاحتلال، تلخصت في أنها كائن له لجام، أي أن تحركاته تجاه دول الجوار، وبدء مرحلة توسع جديدة، يكون وفق الضوء الأخضر الممنوح من الولايات المتحدة، أو بطريقة أخرى من يترك لجامها، ولا يشده للسيطرة عليها.
التجربة الدموية على مدار عام مضى، والتي بدأت منذ 8 أكتوبر 2023، تعطينا التحرك على أحد مسارين لفهم العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، المسار الأول ينطوي على نتنياهو مطيع للإدارة الأمريكية ويحظى ب الدعم العسكري والغطاء السياسي، خاصة مع استخدام الفيتو في مجلس الأمن مرات عدة، مع ما يصاحب هذه الطاعة من دلالات صفقة تبادل المحتجزين وتهدئة الأوضاع في الشرق الأوسط.
المسار الثاني حول العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، يشير إلى حالات تمرد ورفض وتصعيد غير مسبوق، بل وصل إلى شبه مواجهة (مزعومة) بين نتنياهو وبايدن، ودلالات ذلك التصدع الذى طال الإدارة السياسية لكيان الاحتلال، والتظاهرات الشعبية، والاستقالات العسكرية.
وبين حالتي الطاعة والتمرد الموسومة بها العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، خسر الرئيس الأمريكي جو بايدن القدرة على المنافسة في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وضربت التظاهرات الطلابية الجامعات الأمريكية، ورُفع العلم الفلسطيني في كل شوارع أمريكا وأوروبا تقريبا، واتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا تاريخيا بالاعتراف بدولة فلسطين.
لكن هذا لا يشرح طبيعة العلاقات الدولية بين الكيان والقوى الأعظم في العالم، رغم الخسارة الدبلوماسية في الأمم المتحدة، والخسارة الإنسانية في محكمة العدل الدولية، مازال الدعم العسكري يتدفق من واشنطن إلى عاصمة الكيان.
نستطيع أن نفهم طبيعة العلاقة بينهم، من خلال الإجابة على عدة تساؤلات: من أين أتى الكيان بالجرأة التي جعلته يُقبل على اغتيال إسماعيل هنية في طهران؟ وما التنازلات التي قدمتها الولايات المتحدة لإيران حتى تتراجع عن محاربة الكيان؟ وما الذى دار بين أمريكا وفرنسا بشأن هجمات الضاحية الجنوبية في بيروت؟ وهل يمكن أن نقبل الصورة التي تروجها الولايات لنفسها بأنها "عاجزة" أمام ما يحدث في لبنان؟
دعونا نقول إن نتنياهو كان صادقا، ونرى الصورة كما وصفها في كلمته امام الكونجرس الأمريكي عن دور إسرائيل في الشرق الأوسط، فقدم نفسه واصفا أنه يحرس مصالح الولايات المتحدة، ويمارس القوة ضد حماس وحزب الله وإيران، وقد فهم نتنياهو طبيعة عقلية راعي البقر الأمريكي، الذى يحتاج إلى كائن حراسة مسعور لحماية القطيع (المصالح).
ورغم أن الولايات المتحدة ليس لها مصالح مباشرة في الشرق الأوسط، إلا أن الحقيقة البالغة في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، هي إنها دولة مسعورة، وبرهان ذلك، أن دولا كبرى في أوروبا وآسيا، اختلفت مع الولايات المتحدة في ملفات اقتصادية وسياسية وعسكرية، لكنها لم تخرج خارج الإطار المحدد لها.. فما هو الإطار الذي حددته الإدارة الأمريكية لتحرك إسرائيل في الشرق الأوسط؟