ما يحدث في المنطقة وخصوصا بعد التصعيد الأخير بين دولة الاحتلال و حزب الله في لبنان يعكس صورة من صور تطور الصراع بين أيديولوجيات سياسية متطرفة وأخري تشبها .. الأولي ترتدي لباس السياسة كاملا، والثانية تتستر في رداء الدين .
وتقصد الأولي المتشحة برداء سياسي فاضح كله ثقوب ، فتح جبهة جديدة للصراع و توسيع رقعته، أملا في الهروب والتستر وراء انتصارات زائفة وقعت جميعها علي أشلاء مدنيين أبرياء ، وأملاً في تحقيق أهداف كثيرة، منها وقف مفاوضات الهدنة وإطالة أمد الصراع حتي تنتهي الانتخابات الأمريكية في نوفمبر المقبل .
فإما أن تفوز كامالا فتري نفسها في خندق واحد ليس أمامهما سوي التعامل وفق ما كان قد تم وضعه من قواعد للعبة، وإما فوز ترامب فيكون الحليف الأكبر والأوفي ويأخذ الصراع منحني جديدا أشد شراسة وعنجهية وعناد تدفع بالضرورة المنطقة كلها ثمنه الباهظ.
هذا الصراع المجنون بل الزائد في الجنون ، والمغلف بمزيج غريب من التطرف الأصولي والميول التوسعية والاستعراض بالقوة الغشيمة والتسلح النووي، سوف يدفع المنطقة دفعا نحو هوة سحيقة مرعبة تقف عند مدخلها، وفي آخر نفقها قذائف الموت ونيران الدمار المستعرة، وترقد في أرضها عظام أبرياء سحقت دون هوادة وبلا أي ذنب.
ولن يفلح مع هذا الصراع سوي الاستماع إلي العقل الرشيد والعودة إلي طاولة المفاوضات والوقف السريع لإطلاق النيران ومنع اتساع رقعة الصدام.. وهذا ما كانت ولا تزال تنادي به مصر وتبذل جهودًا أسطورية من أجل أن يتحقق ولكن لا تزال متاريس الشر تنصب في كل مكان وزاوية.
قطعا لن يفلح في مثل هذه الأزمات سوي الاستماع إلي صوت العقل وتقديمه علي أي صوت آخر، ولقد رأينا خطاب الرئيس الإيراني علي منصة الجمعية العمومية للأمم المتحدة، فقد رأت إيران أنه من باب التعقل الاستراتيجي التراجع إلي الخلف خطوة فتغيرت مفردات خطابها وبدأ بزشيكان مستبعدًا فكرة الصدام مع إسرائيل ، وهو كما يقولون تعقل يحفظ للدولة الإيرانية مصلحتها والتي بدا أنها تتعارض في الوقت الراهن مع أذرعها المذهبية ( حماس – حزب الله – الحوثيين ).
تراجعت إيران خطوة وبقيت غزة ليس فيها حجر فوق حجر وبقي لبنان، متحولا إلي صندوق بريد كبير يتلقي الرسائل بين القوي المتصارعة والمستندة إلي نعرات قومية وطائفية تارة ونعرات صهيونية ويمينية متطرفة تارة أخري.
الشعوب البريئة تدفع ثمن هذا الصراع السخيف ولا يبقي لهم ملجأ أو مخبأ سوي ذلك الذي يفكر أن يحافظ علي بلاده ويحمي مصالحها ويعليها علي أي مصالح.
الحفاظ علي الدولة في هذا الآتون المستعر هو مهمة مقدسة بل هو "أم المهام"، وعملية الحفاظ علي الوطن تقف علي قدمين، الأولي الدولة.. والثانية الشعب، الثانية يجب أن تبقي في تلاحم وتماسك لا ينفرط وأن تبقي علي يقين تام ووعي كامل بأن الحفاظ علي أمن واستقرار الوطن في مثل هذه الظروف "قدس الأقداس".
فلا نعطي فرصة لأحد أن ينال من وحدته وتماسكه لأن الباب الأخطر الذي قد يأتي منه الشر كل الشر هو باب الفرقة والوقيعة، أما القدم الأخري وهي النظام أو الدولة فلا شك في وطنيته الكاملة ولا في قدرته علي حفظ مقدرات الوطن وثرواته ومصالحه وأمنه القومي بدوائره المختلفة، وهو أمر أبرزت أهميته الأحداث التي نراها حاليًا، فلا بقاء لنا آمنين دون جيش عصري قوي ذو عقيدة وطنية راسخة؛ ومؤسسات ذات إدارة وطنية منضبطة ومتطورة مواكبة لكل تقدم، تمتلك أدواتها كاملة، ولنا في "تفجيرات البيجر" عبرة كبري.