في المستقبل لن تعتمد السياحة في مصر على عراقة حضارتها فقط وسحر كنوزها فقط ، بل ستعتمد أيضا على روعة وسحر طبيعتها كقيمة علاجية فريدة عرفت منذ قديم الزمن.. ذكرها سقراط ، مؤسس علم العلاج الطبيعي المناخي في صحائف شهيرة تحت عنوان " مصر والعلاج المناخي " وذكرها جالينيوس ونصح بالانتقال إليها للاستشفاء وتحدث عنها هيرودوت قائلا : إن المصريين يتمتعون بجو ساحر وصحة تفوق كل الناس، وفي المستقبل لن تتوارى هذه القيمة .. وستبقى كما بقيت مصر تتألق في جبين الدنيا بالعطاء والحب والحياة.
تُعد منطقة حلوان من أقدم المناطق المخصصة للعلاج الطبيعي في وادي النيل، حيث يعود تاريخها إلى زمن بعيد جداً، حتى قبل عصر الأسرات. كان يُطلق عليها اسم "حل أيون"، أي جنوب مدينة الشمس، وقد ذُكرت في المراجع القديمة كمدينة الشفاء المقدسة التي تعالج جميع الأمراض.
أما وادي مريوط، المعروف أيضاً باسم "معسكرات مريوتيس"، فقد اشتهر في العصور الفرعونية وعصر البطالسة كمكان للنقاهة وعلاج القادة بعد عودتهم من المعارك. وكان يُعرف جوه في ذلك الوقت بفعاليته في شفاء العديد من الأمراض الصدرية والروماتيزمية.
و وادي النطرون من أقدم المناطق التي كانت معروفة عن قدماء المصريين ، حيث كانوا يستخرجون منه النطرون لاستخدامه في عمليات التحنيط ثم تحول إلى منطقة مهمة من مناطق العلاج وبلغ عدد الأديرة التي أقيمت به في أوائل العصر المسيحي مائة دير، كانت تستعمل كمصحات وكانت مياه البحيرة تستخدم كحمامات للعلاج وكذلك العيون المعدنية ومزارع النباتات الطبية المحيطة بها.
ومنطقة كرم أبو مينا بالصحراء الغربية كانت خلال القرن السادس عبارة عن مدينة علاجية كاملة بها مصنع للقوارير الفخارية لتعبئة المياه المقدسة التي كان الحجاج يحملونها معهم، فقد كانت تلك المنطقة إلى عهد قريب مزار كثير من حجاج الفاتيكان وطالبي الشفاء.
وغير ذلك توجد الفيوم وواحة آمون – سيوة – وواحة طبية بالواحات الخارجية ومنطقة النوبة وعين الصيرة والعين السخنة على شاطئ البحر الأحمر وجزيرة الفنتين بأسوان التى كان يستغلها كهنة معبد آمون للعلاج بواسطة حمامات الزمل ، التي تحوى العناصر المشعة وكانت جزيرة الفنتين بالذات تستعمل كمعسكر للنقاهة للقوات المحاربة بعد عودتهم من ميادين القتال.
أفضل من فيش ومونتكاتيني :
ويبلغ عدد عيون المياه المعدنية فى مصر 1356 عينا منتشرة فى أنحاء الجمهورية لم يستغل منها سوى عيون حلوان الكبريتية، أما العيون الأخرى فلم يتم استغلالها بعد تحت الإشراف الطبي وبالإمكانيات الفنية لمعالجة المرضى وإقامتهم.. وفى حلوان وحدها 4 عيون كبريتية ساخنة و6 معدنية.
وقد قام إسماعيل محمود الرملى الباحث بمعهد الصحراء بدراسة أثبت فيها أن المياه الجوفية المتدفقة فى العيون الكبريتية تأتى مباشرة من طبقة الحجر الجيرى المتشقق ومياه العيون المعدنية تتدفق من الصخور الجيرية المتشققة غير أنها قبل تدفقها إلى سطح الأرض تمتزج بالمياه الجوفية المتواجدة فى بعض الرواسب الجيولوجية القديمة والحديثة والتى تتسرب من الخزانات الجوفية العميقة.
وقد أثبتت التجارب أن مياه عين حلوان الكبريتية لا يتغير تركيبها الكيميائى ولا تتأثر بالوقت كما تبين بالتحليل البيولوجى أنها صالحة لاستعمال الإنسان.
وقد قام قسم أبحاث المياه بالإدارة العامة للمعامل بوزارة الصحة بعدة أبحاث تبين منها أن مياه عين حلوان المعدنية مياه ملحية قلوية تمتاز بغزارة أملاحها المعدنية وتجمع بين خواص المياه المعدنية المعروفة عالميا، حيث تشبه مياه "شاتل جوبون" الفرنسية وهى أغنى من مياه مونتكاتينى الإيطالية.
بالنسبة لكمية ملح كلوريد الماغنيسيوم ومن ناحية خاصيتها الإشعاعية تماثل مياه "فيشى" ذات الشهرة العالمية ومن فوائدها العلاجية أن نسبة الإشعاع بها تصل إلى الدرجة التى تفيد صحيا دون أن تحدث أية أضرار، كما أنها تفيد فى علاج أمراض الهضم المزمن وأمراض الجهاز المرارى ولها تأثير منشط على أجهزة الجسم فى حالات الشيخوخة المبكرة والإجهاد العصبى ومفيدة فى بعض أمراض الحساسية الجلدية وتسوس الأسنان لاحتوائها على كمية مناسبة من أملاح الفور، أما المياه الكبريتية فلا تصلح للشرب ولكن للاستشفاء عن طريق الاستحمام وتفيد فى الأمراض الروماتيزمية والجلدية.
إمكانيات هائلة :
وفى عام 1968 و1969 جاءت إلى مصر أفواج من المرضى السويديين للاستشفاء، وفى التقرير الذى بعثه مكتب مصر للسياحة فى ستكهولم عن النتائج التى توصل إليها العلماء بعد عودة المرض إلى السويد وجد أن 94% منهم تحسنت حالاتهم المرضية وتوقف المرض لدى الجميع واستطاع 50% منهم ركوب الخيل وكانوا لا يتصورون ذلك وعادت نسبة كبيرة منهم إلى أعمالهم بعد انقطاع دام 10 سنوات عن العمل.
وكان لهذه التجربة صدى واسع فى أنحاء العالم، وفى نوفمبر 1971 زار مصر د. ميشيل بيرين، رئيس أطباء شركة إيرافرانس بهدف دراسة إمكانيات السياحة العلاجية فى أسوان وأعد تقريرًا عن إمكانات المدينة واستعمال رمالها لعلاج بعض الأمراض وجاءت النتائج الأولية إيجابية فى إمكانية استعمال رمال أسوان فى علاج الروماتيزم.
كما حضر إلى مصر البروفيسور هيز، مدير عام المعهد الدولى لعلم الظواهر الإنسانية بمستشفى كوشان بباريس، وتم عرض فكرة إنشاء هيئة لتنظيم رحلات لمجموعات من المرضى والناقهين لقضاء شهر كامل للاستشفاء بمصر واختيرت منطقة حلوان كمنطقة مثالية للاستشفاء.
ومنذ قدوم أفواج المرضى السويديين إلى مصر فى عام 1968 صدر قرار من وزير السياحة بتشكيل لجنة لدراسة كل ما يتعلق بالمنطقة السياحية العلاجية بحلوان وتبين أن حلوان أصبحت تفتقر لكثير من الخواص والمميزات كمنطقة سياحية علاجية وتم اختيار 1000 فدان حول العين المعدنية لإقامة فنادق مختلفة الدرجات ومراكز علاجية وملاعب رياضية وسينما ومسرح وملاهى ليلية.
وبالرغم من إعداد هذا المشروع المتكامل فقد تعذر تنفيذه لعدم صيانة المنطقة من الزحف العمرانى وصحيح أن هناك بعض المشروعات التى يتم تنفيذها الآن ضمن الخطة العاجلة، إلا أن تنفيذ المشروع ككل يحتاج لإجراءات مثل إلزام المصانع والشركات باتخاذ الاحتياطات الكفيلة بمنع تسرب مخلفاتها إلى الأجواء المحيطة أو تركين المكثفات الضرورية لحماية الهواء من التلوث.
و السياحة العلاجية بدأت تنتشر فى كثر من دول العالم، خاصة مع العودة إلى الاهتمام بالطب الطبيعى، غير أن مصر تتميز عن غيرها بخصائص تجعلها أسبق من غيرها فى هذا المجال.
نشر بمجلة أكتوبر فى سبتمبر 1978م – 1398هـ