دائمًا ما تهب نسائم " أكتوبر النصر" حتى تهب معها نسائم وذكريات العزة والفخر والبطولة التى صنعها جيل أكتوبر .
ورغم أن هذا العام تهب نسائم ذكرى النصر الحادية والخمسين وسط محيط مضطرب ؛ إلا أننا مع الأبطال وأسرار المعارك، نتأكد دائمًا ونؤكد قائلين «وإن عدتم عدنا» فحماية الوطن والدفاع عنه عقيدة والنصر أو الشهادة غاية.
مع احتفالات أكتوبر نجد المشهد فى المنطقة يدفع بنا إلى حديث بعض المحللين عن اقتراب مواجهة لحرب شاملة، قد تكون المنطقة نقطة انطلاقها تتغير معها موازين القوى الدولية ؛ وإذا كان هذا الرأى يلقى تأييدا من البعض.. فهناك آخرون يرون أن الحرب الشاملة لن تحدث الآن أو حتى فى القريب وإن كان ما يحدث حاليًا هو إرهاصات لها.
الأمر الذى يجعل دائمًا الحفاظ على الدولة الوطنية وتماسكها، وقوة مؤسساتها، وقدرات قواتها المسلحة المتطورة، حائط صد منيعًا فى مواجهة هذا المحيط المضطرب.
فى ذكرى النصر، وفى الطريق للقاء الأبطال دائمًا ما أثق أن اللقاء سأكتشف فيه مع البطل أسرارًا جديدة لمعركة أكدت كل المدارس والمعاهد والكليات والنظريات العسكرية أنها مستحيلة، بدءًا من العبور وانتهاءً بالحصول على كامل التراب الوطني.
فالنظريات العسكرية والتوقعات حال المواجهة مع العدو كانت تؤكد أن الخسائر البشرية فى الجانب المصرى ستكون ضخمة، والنتائج لن تغير من الواقع شيئًا بل ستمنح إسرائيل فرصة أكبر للعربدة وضرب العديد من المواقع داخل الدولة المصرية وكسب مزيد من الدعم الغربى الذى لم يتوقف لحظة.
لكن مع لقاء الأبطال تكتشف السر الحقيقي، الذى لم تستطع مراكز العدو وحلفاؤه البحثية أو نظرياتهم العسكرية أو أجهزة معلوماتهم أن تقدر أو تقيم الأمر التقييم الصحيح.
فكل التقديرات كانت لصالح العدو، والمشهد بعد 6 سنوات من يونيو 67 كان مؤلمًا بل إن الشارع المصرى نفسه كان متشككا فى القيام بحرب شاملة رغم مظاهرات الطلاب فى الجامعات منادية بالحرب، فى ظل تصريحات الرئيس محمد أنور السادات وحديثه عن عام الحسم عام 1971 عقب توليه المسئولية بعدة أشهر ثم كان لا شيء لم تحارب مصر بل استمرت التدريبات والعمليات خلف خطوط العدو، ولم تكن حربًا شاملة كما كان ينادى الشعب.
ثم خرج الرئيس على الشعب فى أوائل عام 72 مشيرًا إلى أن ما منع الحسم هو الضباب، وتندر الشارع على تصريحات الرئيس السادات ولم يدرك الكثيرون ما يدور بعقل الرئيس الذى كان يعد لعام حسم ولم يصرح به وهو عام 1973، والذى اتخذ قرارًا به بعد أن أعد للمعركة عدتها، وأدرك أن استمرار حرب الاستنزاف لن يحرر الأرض، لابد من تحقيق تغيير كامل فى المشهد فى ظل دعم وتأييد لا يتوقف من قبل الولايات المتحدة والغرب لإسرائيل، رغم أن تلك القوى تعلم أنها دولة محتلة وما تقوم به مخالف لكل القرارات والقوانين والمواثيق الدولية، لكن العالم لا يعترف أبدًا بالضعفاء، إنها لغة القوة.
كان قرار الرئيس السادات ومنذ اللحظة الأولى لتوليه المسئولية فى 17 أكتوبر 1970 عقب وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وعقب لقاء الفريق أول محمد فوزى، وزير الحربية فى ذلك الوقت، هو أنه لابد من الحرب، فالاستنزاف له دور كبير فى التأثير على قدرة العدو لكن لن يحسم المعركة، ستكون حرب الاستنزاف بمثابة التدريب على المعركة الشاملة نتعرف خلالها على قدرات العدو؛ لكن لابد من معركة تغير المشهد تماما وتجعل العالم يقف أمامنا تقديرًا واحترامًا ويساندنا فى تحقيق كل مطالبنا، إنه حديث القوة الذى لا يفهم العالم لغة سواها.. لكن الأمر يحتاج لمعجزة لن تقدر عليها مصر، هذا وفق حسابات العالم للأمر، فى الوقت الذى كان القائد الأعلى لـ القوات المسلحة رئيس الجمهورية يدرك أن مصر لديها سلاح أكثر قوة، وهو إرادة المصريين وقدرتهم على صنع المستحيل.
بالتدريب والتخطيط الجيد يستطيع المقاتل المصرى أن يحول المستحيل إلى واقع، بل يعدّل من النظريات العسكرية ويقلب ميزان المعركة ونتائجها؛ فهو دائمًا سر النصر.
الأسبوع قبل الماضى ذهبت وزميلى وليد فائق للقاء الفريق أسامة المندوه أحد أبطال حرب أكتوبر وأحد رجال سلاح المخابرات والاستطلاع، الذين كان لهم دور كبير فى توفير المعلومات التى جعلت من سيناء كتابًا مفتوحًا أمام القوات، رادارات بشرية أكثر دقة من تلك الرادارات الصناعية؛ لكن عملها خلف خطوط العدو يجعل الأمر أكثر صعوبة، فكيف لعنصر من العناصر أن يقوم بالاتصال وهو محاط بقوات العدو من كل جانب؟! كما أن العدو يمتلك من التكنولوجيا المتقدمة ما يجعله قادرًا على التقاط أى إشارة تخرج من سيناء ، فيتحرك باتجاهها لتمشيط المنطقة، وهوما حدث مع الفريق أسامة المندوه، تدريب متواصل واحترافية ودقة فى التنفيذ دائمًا هو سر النجاح.
منذ وصلنا إلى منزله والتساؤلات كثيرة فى رأسى تبحث عن إجابات جعلت من الوقت يمر ونحن لا ندرك أننا ظللنا نتحدث لمدة ثلاث ساعات متواصلة.
يحكى لنا تفاصيل ما حدث بعد يونيو 67 وبالتحديد عقب تخرجه فى ديسمبر من ذات العام، وقد شارك فى الحرب قبل تخرجه، ثم كيف اختار أن يكون على خط المواجهة الأول، بعد التخرج، وكيف أن عبور القناة قبل يوم السادس من أكتوبر كان هدف المقاتلين يتبارى إليه الجميع، فاعتاد الأبطال على عبور القناة دون أن يدرك العدو أن هؤلاء على الضفة الغربية للقناة ستأتى ساعة الصفر وسيعبرونها أفواجًا لتحرير الأرض.
بشوش هادئ كعادة رجال المخابرات والاستطلاع، قائد مرتب متقد الذهن، أصدر كتابًا بعنوان "خلف خطوط العدو" حكى فيه الكثير من تفاصيل حياته، لكنك عندما تجلس إليه تجد أن حياته مليئة بتفاصيل تحتاج إلى مجموعة ضخمة من الكتب، فالمشاركة فى المعركة لديه لم تكن على الجبهة ومسرح العمليات العسكرية فقط بل انتقل بعد ذلك إلى المسرح السياسي، عندما انتقل قنصلاً لمصر فى تل أبيب، ليلتقى بعدد من قادة إسرائيل منهم من كان يبحث عنه فى أكتوبر 73.
حديث الفريق أسامة المندوه يكشف حجم ما قامت به القوات المسلحة والبطولات التى سطرها الأبطال وكيف استطاعت مصر قيادة وجيشًا وشعبًا أن تمحو الهزيمة وتحرر الأرض من عدو لا يقبل أبدًا التنازل عن أى شبر اغتصبه من أراضى الغير بل إن معتقد العدو الراسخ فى ذهن قادته أن تلك الأرض هو لم يحتلها بل قام باستردادها.
وصف لنا كيف كانت تفاصيل المشهد فى القاهرة يوم 6 من أكتوبر وكان فى ذلك الوقت برتبة النقيب وكيف عبر القناة مع مجموعته التى لم تكن سوى فردين (هو وضابط صف ودليل من أبناء سيناء) فى مهمة تحدد لها مدة 9 أيام، فتحولت إلى 180 يومًا فى قلب سيناء؛ تفاصيل تلك العملية ننشرها كاملة فى هذا العدد.
سيل من المعلومات يصل القاهرة يوميًا من قبل سيناء منذ لحظة وصوله مساء السادس من أكتوبر إلى موقع المهمة وحتى عودته فى مارس عام 1974 ليلتقى بالقائد العام ويكرمه، ويسبق ذلك استقبال حافل له فالمهمة لم تكن سهلة، والعدو الذى منى بالهزيمة، لم يستسلم بعد، فقد التقط أنفاسه وتلقى أكبر دعم عسكرى من أمريكا وحلفائه الغربيين.
كانت مهمة البطل ورفاقه على طول جبهة القتال من أصعب المهام وأدقها، فكانت أكبر مصدر للمعلومات عن كل تحركات العدو على الأرض، فهو أول من نبه إلى وصول الدعم الأمريكى ل إسرائيل أرض المعركة وصفه المشير أحمد إسماعيل بأنه كان حنفية معلومات.
تفاصيل كثيرة رواها لنا الفريق أسامة المندوه ننشرها على جزأين.
خلال الأسبوع الماضى التقيت المهندس عز الدين سيد، أحد أبطال حرب أكتوبر وأحد رجال الصناعة البارزين.
وكعادة أبطال أكتوبر أنهم جميعًا يمتلكون روحًا إيجابية قادرة على مواجهة التحديات فقد صنعت تلك المرحلة من هؤلاء الرجال، أبطالاً فى كل الميادين.
وجه باسم يلتقيك به، ودقة شديدة فى سرد الأحداث، نموذج يحتذى به، لابد لشبابنا أن يدرسه.
فقد تم تجنيده ضابط احتياط بـ القوات المسلحة عقب يونيو 67 وهو من أوائل دفعته بكلية الهندسة وكان قد تم تكليفه للعمل بهيئة التصنيع.
أنهى مدة دراسته بكلية الضباط الاحتياط لينتقل مباشرة إلى الجبهة ضمن سلاح المهندسين، وهنا تبدأ العمليات والبطولات على ساحة العمليات خلال 6 سنوات ثم فى حرب أكتوبر، تعرض للاستشهاد أكثر من مرة خلال تنفيذه للمهام فقد كان لسلاح المهندسين دور كبير فى المعركة تدرب عليه الأبطال باحترافية، كان له الفضل فى صناعة أبراج المراقبة على طول خط الجبهة والتى كشفت تحركات العدو على طول خط بارليف، لم يكن الأمر سهلاً خاصة إذا كان مطلوبًا فى تلك الأبراج أن ينزل المقاتل خلال مدة زمنية أقل من مدة وصول قذيفة العدو إليه ليصل إلى الحفرة المخصصة له حتى لا يتأثر فيصاب أو يستشهد.
نجح فى تنفيذ ذلك، ونجحت الأبراج فى كشف تحركات العدو على طول خط القناة، بطولات وحكايات عديدة كشفها لى الضابط البطل المهندس عز الدين سيد ننشرها فى العدد القادم ضمن سلسلة حكايات النصر.
من سلاح المهندسين إلى سلاح الطيران والذى استطاع أن يثبت رغم ما حدث فى يونيو 67 أن القوات الجوية المصرية قادرة على الدفاع عن تراب هذا الوطن فما بين عمليات الإغارة على العدو وعمليات الاستطلاع قام سلاح الجو بالعديد من البطولات وسطر نظريات عسكرية جديدة بعد معركة المنصورة الجوية.
كما نجح فى إعداد كمائن جوية للعدو خلال فترة حرب الاستنزاف استطاع خلالها تلقينه دروسًا لن ينساها سوف أستعرض بعضًا منها فى العدد القادم.
ومن ميدان المعركة على أرض سيناء وملاحم البطولة والفداء تظل قواتنا المسلحة هى درع الوطن وسيفه، فقد جاء الاحتفال بتخريج دفعات جديدة من الكليات العسكرية من مقر الأكاديمية العسكرية بالعاصمة الإدارية معبرا عن مرحلة جديدة فى تاريخ هذا الوطن.
خلال الاحتفال كان العرض مبهرًا ومعبرًا عن قدرة الدولة المصرية بل إن حجم العمل والتنسيق لهذا الكم من القوات فى توقيت متزامن يؤكد على الاحترافية التى تتمتع بها والقدرات القتالية العالية.
ففى الوقت الذى نحتفل فيه بالنصر تأتى الرسالة قوية تطمئن الشعب أن قواته المسلحة على العهد دائما فى الذود عن التراب الوطنى جيلاً بعد جيل لتظل راياته عالية خفاقة.