كان بِشْرُ بن الحارث بن عبد الرحمن المروزي عابثًا ماجنًا، آتاه الله ثروةً طائلةً وسُلِّطَ على هَلَكَتِهَا في الباطل، حتى إنه كان يُقِيمُ حفلاتِ المُجُونِ والسُّكْرِ والعَبَثِ فِي وَضَحِ النهار، فضلًا عن إقامتها تحت ستار الليالي المُظلمة.
وفي واحدةٍ من تلك الليالي التي لم تكن أشدُّ ظُلمةً من نَفْسِه التي بين جَنْبَيْهِ، وبينما هو جالسٌ في داره بين أصدقائه حول الكاس والطاس، وبينما تتعالى أصوات الضحكات الماجنة، وخُرافات السُّكارى الصاخبة، إذ طُرِقَ بَابُه عدة طرقات غاضبة مزعجة، فلمَّا قامت جاريته بفتح الباب وجدت شيخًا وقورًا لا يتوافق سَمْتُه الهادئ الرزين مع طرقاته الغاضبة المزعجة، فَلَمَّا فتحت له الجارية سألها عابسًا: لِمَنْ هذه الدار؟
قالت الجارية: لسيِّدِي بشر بن الحارث.
قال الطارق: وبشر هذا.. حُرٌّ أم عَبْدٌ؟
قالت الجارية وقد عَلَتْ مُحَيَّاها ابتسامة ساخرة من غباء السائل (في ظَنِّها): بل هو حُرٌّ، أقول لك سيدي!!
وهنا تَبَدَّل عبوس السائل إلى ابتسام، وتَحَوَّل غضبه إلى شَفَقَة، ثم قال لها وقد ردَّ على ابتسامتها الساخرة بمثلها: صَدَقْتِ.. لو كان عبدًا لاستعمل أدب العبودية وترك اللَّهو والمُجُون.
وكان بشر قد سمع بعضًا من الحوار، فأفاق من سُكْرِه واهتزَّت روحه هِزَّة الغافل الذي عرف طريقه، وغادر الدار على الفور مُهَرْوِلًا حتى نسي أن يلبس نعليه، وأخذ يتبع الطارق المجهول حتى لحقه في بعض الدروب المظلمة، فاستوقفه وطلب منه أن يُعيد على مسمعه الكلام الذي قاله للجارية، ففعل الرجل، وهنا ركع بشر على الأرض يُمَرِّغُ وجهه في التراب يطلب العفو والمغفرة، وهو يصيح : بل عَبْد... بل عبد.
ثم هام على وجهه في الفلوات حتى عرف بالحافي، فإذا سئل: لماذا لا تلبس نعلا؟
قال: "لأني كنت حافيا حين صالحني مولاي... فلا أعدل عن هذه الحال حتى الممات".
" كنت حافيا حين صالحني مولاي...
إنه العشق المتفاني والفناء في الخضوع اللامتناهي، وأيُّ يومٍ أجمل من يوم التصالح مع الله؟!، وأيُّ ذكرى أعزُّ من ذكر الحال عندما رَضِيَ الإله؟! وأي تفصيلات يذوب المرء فيها هي أجدر وأسمى وأحق من تفصيلات اليوم والهيئة والمهجة والقلب والقالب، عندما فرح بتوبته مالك الملك وملك الملوك؟
"كنت حافيا حين صالحني مولاي" ...
في حياة الإنسان أيام لا تُنْسَى، أيام تحتل جزءًا عزيزًا من القلب، يوم النجاح، يوم ميلاد الابن الأول، يوم أن يسمع للمرة الأولى من فلذة كبده كلمة "أبي" ... إلخ. ولكنها أيام ... أيام جميلة لها في النفوس ما لها من الإعزاز، ولها في القلوب ما لها من المكانة، ولكنها ليست محور الحياة... ليست الأيام التي بكل العمر.
أما اليوم الذي يستحق أن يكون هو كل العمر، كل الحياة، يستحق أن يكون هو عنوان الحياة، ذلك اليوم هو يوم التصالح مع الله.
"كنت حافيا حين صالحني مولاي" ...
ثم انظر إلى كلمة "صالحني" .. هو سبحانه مَنْ صالحني مع غناه عني، هو سبحانه من صالحني مع خطئي وتقصيري، هو سبحانه من أدناني مع نأيي ونفوري، هو الرب الرحيم الذي يحنو ويغفر.
"كنت حافيا حين صالحني مولاي"...
ثم انظر إلى كلمة "مولاي"... يا لها من كلمة رقيقة عزيزة تشعر بتمام الانتماء، تمام الفناء، تمام الفخر بالعبودية لرب الأرباب وخالق الأرض والسماء، هو مولاي الذي يعلم حالي ويُصلح لي نفسي، ثم يصلحني لنفسي.
صار بشر الحافي علمًا من أعلام الصوفية ورائدًا من رُوَّاد الزهد، قدم من إيران إلى العراق قبل أن تظهر الطرق الصوفية، وكان التصوف في ذلك العصر فلسفيا، يغرق المتصوف في تأملاته الذاتية حتى تتكشف له علامات الرضا والقبول، ولا يشغله من أمر الخلق شاغل عن الهدف الأسمى وهو الفناء في طاعة الله.
وعاش بشر الحافي بلا زواج، فقال له الناس: تركت سُنَّة الزواج!
فيقول: أنا مشغولٌ بالفرض عن السُّنة.
وهو يعني بالفرض مجاهدة النفس وتصفيتها من نوازع الشر والسوء.
ويقول: إن المرأة لا تصلح إلا للرجال، وأنا لم أبلغ مبلغ الرجال، فللقوم أوان يعرفون به أوان استحقاق التزويج، وهذا الأوان أن يبلغ إلى حدٍّ لا يشغله عن الله شاغل. فمن لم يبلغ هذا الحد لا ينبغي له الزواج!!
وقضى بشر الحافي بقية حياته زاهدا عن متاع الدنيا، يرى أن هذا الزهد يُيَسِّر له الطريق إلى الله، وهو القائل: عَانِق الفقر، وتَوَسَّد الصبر، وعادِ الهوى وخالِف الشهوات، وضَيِّق الدنيا عليك كحلقة الخاتم، فهذا يُطَيِّب السير إلى الله.
وقيل له: بأي شيء تأكل الخبز؟ قال: أذكر العافية فأجعلها إداما.
وكان بشر الحافي ينعي على علماء عصره تحاسدهم وطلبهم الأمور الدنيوية، ويقارن بين مسلكهم ومسلك العلماء قبلهم، حيث كانوا موصوفين بصدق اللسان وأكل الحلال وكثرة الزهد في الدنيا، أما اليوم – فيما يقول بشر – فلا أعرف أحدا منهم فيه هذه الخصال.
وكان يقول: وَيْحَكُم يا عُلماء السوء! أنتم ورثة الأنبياء؟! إنَّما أُورثتم العلم فَحَمَلْتُمُوه وزُغْتُمْ عن العمل به وجعلتم عِلمكم حرفةً تكسبون بها معاشكم، أفلا تخافون أن تكونوا أول من تُسَعَّر به النار؟!