الرحمة صفة إلهية وسمة نبوية وخصيصة إنسانية، دعت إليها كل الأديان وكانت هي مغزى جميع الرسالات السماوية، والرحمة هي أول صفة من صفات الله سبحانه تقابلنا عندما نبدأ في قراءة آيات كتابه الحكيم، و (الرحمن الرحيم) هما الاسمان الوحيدان من أسماء الله الحسنى اللذان تكررا في مفتتح كل سور القرآن، عدا سورة التوبة التي تبدأ دون البسملة.
وقد ورد في الأثر أن الله تبارك وتعالى قسم رحمته التي وسعت كل شيء إلى مائة جزء، جعل جزءا واحدا منها في الدنيا، يتراحم به الخلق والدواب وسائر المخلوقات، وادخر سبحانه تسعا وتسعين جزءًا من رحمته إلى يوم القيامة ليرحم بها خلقه.
وورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قوله: "إن الله تعالى يرحم عباده يوم القيامة رحمات عظيمة، حتى إن إبليس ليظن أنه قد يغفر له".
وقد اختصر الحق سبحانه وتعالى رسالة خاتم رسله وخير خلقه في الرحمة فقال سبحانه مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين).
ووصف النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بأنه رحمة، وذلك حين قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا رحمة مهداة"
وقد حث الدين الإسلامي الحنيف على الرحمة وجعلها سمة مميزة للفضلاء من عباد الله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يضع الله الرحمة إلا على رحيم"، وقال عليه الصلاة والسلام: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
وفي المقابل فإن انتزاع الرحمة من القلوب هو الدليل الواضح والحجة البالغة على شقاء البشر والإيذان باقتراب نهاية الكون، فإن الآثار الصحيحة دلت على أن القيامة لن تقوم إلا على شرار الخلق الذين نزعت الرحمة من قلوبهم.
وخلو القلب من الرحمة هو الأمر الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يكاد يعاقب رجلا مسلما على فعل قام به في الجاهلية، ففي الأثر الصحيح أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان دائم الهم كثير الفكر فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب همه الدائم فقال: " يا رسول الله، أمر ارتكبته في الجاهلية وأخاف أن يعاقبني الله عليه في الآخرة" فلما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر قص الرجل قصة أبكت النبي وأصحابه، قال الرجل: "كانت لي ابنة في الجاهلية، حاولت وأدها بعد مولدها ولكن أمها استعطفتني لأبقيها فغلبني عطفي وأبقيتها حتى كبرت، ثم إني بعد سنوات من ولادتها نظرت إليها فوجدت أنها قد نمت وترعرعت فغلبني شيطاني وعزمت على وأدها، فقلت لأمها أنني أريد زيارة إحدى القبائل وأريد أن تذهب ابنتي معي، واستشعرت أمها بعاطفة الأمومة نيتي في الغدر بها والفتك بابنتها، ولما وجدت أن محاولتها إثنائي عن أخذ ابنتها معي باءت بالفشل أخذت تستعطفني وتأخذ عليَّ العهود والمواثيق ألا أمس ابنتها بسوء، وأعطيتها بلساني ما أرادت من عهود، ولكن قلبي كان قد سيطر عليه الشيطان وأصبحت النية في التخلص منها لا مناص منها، وسرت في طريقي وسارت ابنتي معي تنظر إليَّ بين الحين والحين بعينين خائفتين راجيتين مستعطفتين وتسألني: أتقتلني يا أبي؟ وكنت لا أرد عليها وأتجاهل نظراتها، حتى وصلت بها إلى إحدى الآبار وقمت بإنزالها في البئر وهي تبكي وتتضرع وترجوني ألا أفعل، فما سمعت لها وما رحمت صرخاتها، ومكثت عند البئر بعد أن رميتها بها أستمع إلى صوت صرخاتها واستغاثاتها حتى قطع الموت صوتها وأذهب القضاء حياتها، ثم تركتها وانصرفت".
وما أن وصل الرجل من حديثه عند هذا الموضع حتى نظر فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سالت دموعه حتى بلت لحيته وانخرط أصحابه في بكاء شديد، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت معاقبا أحدا في الإسلام على فعل قام به في الجاهلية لكنت معاقبك". وانصرف الرجل من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وظل محروما من مجلسه حتى مات صلى الله عليه وسلم.
إن الإسلام يجب ما قبله، ومع هذا لم ينس النبي فعلة الرجل التي اتصفت بعدم الرحمة، كما لم ينس صلى الله عليه وسلم ل وحشي بن حرب قتله وتمثيله بعمه حمزة بن عبد المطلب، وطلب منه صراحة أن يغيب عنه وجهه.
إن وجود الرحمة في القلوب هو آخر علامات الإنسانية الحقة المكرمة وهو آخر حصون الإنسان قبل فقده إنسانيته وتحوله من مخلوق كريم إلى مخلوق آخر كريه هو في شره وكراهيته أشد قسوة من الوحوش الضارية التي مع ضراوتها وشدتها وعدوانيتها لم تخل من الرحمة التي جعلها الله جزءً غريزيا أصيلا في تكوينها.
فلنتراحم ولنتقارب ولنتسامح حتى نكون أهلا لرحمة الله.... (إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِين)