أن «تعيش» مائة عام!

أن «تعيش» مائة عام!محمود أيوب

الرأى2-11-2024 | 07:35

أن تبقى مائة عام فهو أمر نادر في تاريخ المطبوعات الصحفية، فكم من مطبوعة ولدت ثم سرعان ما ذابت اوراقها وسط التطور التكنولوجي، لم نرَ مطبوعة صمدت لقرن من الزمان مع كل هذه التغيرات المتعددة، الا قليل، وقليل جداً.

لكن عندما تجد مطبوعة بالفعل ما زالت تصدر منذ ولادتها، لك أن تقف وتضع النقاط على الحروف لتتعرف على الأسباب التي جعلتها تقاوم كل هذه السنوات، لتظل موجودة بنفس قيمتها وسياستها وثقلها في الوسط الصحفي، وتحافظ على قرائها، وتؤدي دورها الذي وُلدت من أجله طوال هذه السنوات.

الأسباب كثيرة وعميقة، لكن تعالَ معي لأحدثك عن مجلة اسمها المصور، مجلة صمدت قرناً كاملاً من الزمن، وقد تشرفت بالانضمام إليها منذ عشر سنوات، حيث تعلمت فيها أصول المهنة.

في 24 أكتوبر 1924، صدر أول عدد من مجلة "المصور"، ليكون بداية مسيرة إعلامية رائدة امتدت لمئة عام، خلال هذا القرن، لم تكن المجلة مجرد نافذة لنقل الأخبار والمعلومات، بل أصبحت مدرسة فكرية وثقافية تربت فيها أجيالٌ من المثقفين والقراء، حيث لعبت المجلة دور محوري في تشكيل الوعي الثقافي والسياسي والاجتماعي في مصر والعالم العربي.

منذ عددها الأول، تميزت "المصور" بطرحها قضايا تهم المجتمع بكل أطيافه، متجاوزة دور الصحافة التقليدي في مجرد سرد الأحداث، عملت المجلة على أن تكون منارة للتنوير، تسعى لنشر المعرفة والوعي، من خلال تسليط الضوء على القضايا الاجتماعية المهمة مثل التعليم والصحة وحقوق المرأة، إلى جانب اهتمامها بالشؤون الثقافية والسياسية.

عبر صفحاتها، دافعت المجلة عن قيم الحرية والعدالة والمساواة، مقدمة لقرائها رؤية نقدية للأحداث والتغيرات التي شهدتها مصر والمنطقة.

لم تكن "المصور" مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل كانت شاهدة على أهم الأحداث والتغيرات السياسية التي مرت بها مصر خلال المائة عام الماضية، من ثورة 1919 إلى حرب أكتوبر 1973، ومن تأسيس الجمهورية إلى انتفاضات الربيع العربي، وإزاحة المصريين للفاشية الدينية، وبناء جمهوريتهم الجديدة.

وقفت المجلة إلى جانب الشعب المصري، تنقل نبض الشارع وتوثق لحظات التحول التاريخية التي شكلت هوية الأمة، وبرزت المجلة كمنبر للأصوات التحررية والإصلاحية، حيث دعمت حركات الاستقلال والنهضة القومية في العالم العربي، ملتزمة بدورها في دعم الحقوق والعدالة.

بجانب التغطيات السياسية والاجتماعية، لم تغفل "المصور" دورها الثقافي، فقد ساهمت بشكل فعّال في نشر الفكر التنويري والأدبي، حيث نشرت مقالات لعدد كبير من الأدباء والمفكرين المصريين والعرب، وأسهمت في الترويج للآداب والفنون المصرية والعربية، وسلطت الضوء على أعمال الأدباء والشعراء والفنانين الذين لعبوا دورًا في بناء هوية الأمة الثقافية.
ولم تتوقف عند حد الترويج للفن والثقافة المحلية، بل تفاعلت مع الحركات الثقافية العالمية، حيث عرضت لقرائها التحولات الفكرية والفنية التي شهدها العالم في القرن العشرين وما بعده.

كانت "المصور" جسرًا بين القراء المصريين والعرب وبين العالم الخارجي، تقدم لهم صورة بانورامية عن الثقافات المختلفة، ومع مرور الزمن، أصبحت مرجعًا للباحثين والطلاب والمثقفين الذين يلجأون إليها للحصول على معلومات موثوقة وتحليلات معمقة، وكانت دائمًا ولا تزال سباقة في تقديم الموضوعات بأسلوب صحفي مشوق، يعتمد على السرد القصصي الجذاب والتوثيق الدقيق للأحداث.

إلى جانب ذلك، ساهمت "المصور" في تنمية الوعي السياسي والاجتماعي لدى الشباب، من خلال مقالاتها وتقاريرها، قدمت منظورًا نقديًا للأحداث، ودعت إلى التفكير الحر والتفاعل الإيجابي مع القضايا الوطنية والعالمية، ولعبت دورًا في تشكيل الوعي الوطني والاهتمام بقضايا الأمة، مما جعلها مصدر إلهام لجيل من المفكرين والصحفيين.

وعلى مدار مئة عام استطاعت "المصور"، أن تبقى في قلب المشهد الصحفي المصري والعربي، رغم التحديات التي واجهتها الصحافة المطبوعة، مثل التطور الرقمي وصعود الإعلام الإلكتروني، بقيت المجلة وفية لقرائها، تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتتجدد بشكل مستمر لتواكب تغيرات العصر.

كما كانت المجلة نموذجًا للاستمرارية والقدرة على التكيف، فقد طوّرت نفسها بشكل دائم لمواكبة التغيرات التكنولوجية، وبفضل ذلك، استطاعت الحفاظ على قرائها التقليديين، وجذب جمهور جديد من الشباب الذين يبحثون عن محتوى غني وموثوق في عصر السرعة والمعلومات المتدفقة.

ومع دخولها مئوية جديدة، لا تزال "المصور" تسعى لتكون في مقدمة وسائل الإعلام التي تسلط الضوء على قضايا الأمة الكبرى، من تغيرات المناخ، إلى التحولات الاقتصادية، إلى قضايا المرأة وحقوق الإنسان، وكذلك النزاعات في الشرق الاوسط، من خلال رسالتها التنويرية عبر تقديم محتوى ثري وهادف يعزز من وعي المجتمع ويشجعه على التفاعل الإيجابي مع تحديات المستقبل.

مئوية "المصور" ليست فقط احتفالًا بتاريخ طويل من الصحافة الجادة والملتزمة، بل هي أيضًا شهادة على دور الصحافة في تنوير العقول وتثقيف الأجيال، على مدار قرن كامل، كانت "المصور" شاهدًا على تطور مصر والمنطقة، وهي اليوم تدخل مئويتها الجديدة بطاقة متجددة ورؤية طموحة تستمر في خدمة المجتمع والإنسانية.

أضف تعليق